موسوعة البحـوث المنــبرية 

.

    تفسير سورة النور: ثاني عشر: الآيـة (61):          الصفحة السابقة        (عناصر البحث)        الصفحة التالية   

 

 

ثاني عشر: الآيـة (61):

{لَّيْسَ عَلَى ٱلأعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَـٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَـٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّـٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَـٰلَـٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلاْيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

أسباب النزول:

وردت عدة أقوال في سبب نزول هذه الآية نذكر منها ما يتيسر:

أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أنزل الله عز وجل: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ} [النساء:29]، قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وأن الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله عز وجل {لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلاْعْرَجِ حَرَجٌ...}[1].

ب- وعن الضماك أنه قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذر والتقزز وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح والأعرج المنحبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام والأعمى لا يبصر طيب الطعام فأنزل الله {لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ...} فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء: ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه ولا في الأعرج حرج ولا في المريض حرج...)[2].

ج- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون[3] في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضَمْنَاهم ويقولون: إن احتجتم فكلوا فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءابَائِكُمْ}[4].

د- وعن عكرمة وأبي صالح قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم[5].

القراءات:

1- قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ}:

1) {مَلَكْتُم}: بفتح الميم وتخفيف اللام وهذه قراءة الجمهور.

2) {مُلِّكْتم}: بضم الميم وكسر اللام وشدها وهذه قراءة سعيد بن جبير.

2- {مَّفَاتِحهُ}:

1) {مفاتحه}: هذه قراءة الجمهور.

2) {مفاتيحه}: بيان بين التاء والحاء وهذه قراءة سعيد بن جبير.

3) {مفتاحه}: على الإفراد وهذه قراءة قتادة[6].

المفردات:

1- {حَرَجٌ}: أصل الحرج والحِراج مجتمع الشيئين وتُصوّر منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم حرج[7].

2- {صَدِيقِكُمْ}: الصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك[8].

3- {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}: جميعاً: نصب على الحال و (أشتاتاً) جمع شت والشت: المصدر بمعنى التفرق يقال: شت القوم أي تفرقوا والمقصود: إباحة الأكل جميعاً وإن اختلفت أحوالهم في الأكل[9]. وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله: أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين[10].

4- {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً}:

في البيوت قولان:

أحدهما: أنها البيوت كلها. الثاني: أنها المساجد. والصحيح الأول لعموم القول ولا دليل على التخصيص[11].

المعنى الإجمالي:

يخبر تعالى عن منته على عباده وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسر فقال: {لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلاْعْرَجِ حَرَجٌ...} أي ليس على هؤلاء جناح في ترك الأمور الواجبة التي تتوقف على واحد منها وذلك كالجهاد ونحوه مما يتوقف على بصر الأعمى أو سلامة الأعرج أو صحة المريض ولهذا المعنى العام أطلق الكلام في ذلك ولم يقيده {وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} أي حرج أن تأكلوا من بيوتكم أي بيوت أولادكم وهذا موافق للحديث: ((أنت ومالك لأبيك))[12] {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ} أي البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة أو ولاية ونحو ذلك {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وهذا الحرج المنفي من الأكل من هذه البيوت كل ذلك إذا كان بدون إذن فبيوت هؤلاء المسمّين قد جرت العادة والعرف بالمسامحة في الأكل منها لأجل القرابة القريبة أو التصرف التام أو الصداقة. فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور لم يجز الأكل ولم يرتفع الحرج نظراً للحكمة والمعنى. وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} أي فكل ذلك جائز أكل أهل البيت الواحد جميعاً أو أكل كل واحد منهم وحده وهذا نفي للحرج لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً...} يشتمل بيت الإنسان وبيت غيره لأن {بُيُوتاً} نكرة في سياق الشرط. فإذا دخلها الإنسان {فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} أي فليسلم بعضكم على بعض لأن المسلمين كأنهم شخص واحد من توادهم وتراحمهم وتعاطفهم. ثم مدح حق السلام فقال: {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً طَيّبَةً} أي قد شرعها الله سبحانه وجعلها تحيتكم وجعلها مباركة لاشتمالها على السلامة من النقص وحصول الرحمة والبركة {طَيّبَةً} لأنها من الكلم الطيب المحبوب الذي فيه طيب نفس للمحيا...)[13].

نصوص ذات صلة:

قال الله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً طَيّبَةً}:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء))[14].

الفوائـد:

1- قوله تعالى: {وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}:

هذا ابتداء كلام أي ولا عليكم أيها الناس ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام وذكر بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأنباء فقال المفسرون: ذلك لأنها داخلة في قوله تعالى: {مِن بُيُوتِكُمْ} لأن بيت ابن الرجل بيته وفي الحديث: ((أنت ومالك لأبيك))[15] ولأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد[16].

2- قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ}:

وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأُجراء قال ابن عباس: عني وكيل الرجل على ضيعته وخازنه على ماله فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه[17].

3- قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استعانة الجهمنيّن {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:110] قلت[18]: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه[19].

4- قوله تعالى: {تَحِيَّةً} مصدر لأن قوله {فَسَلّمُواْ} معناه فحيوا وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه ووصفها أيضاً بالطّيب لأن سامعها يستطيبها. والكاف من قوله: {كَذَلِكَ} كاف كشبيه {ذَلِكَ} إشارة إلى هذه السنين أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم[20].


[1] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/312)، وجامع البيان (18/168)، وابن كثير (3/317).

[2] انظر: جامع البيان (18/168).

[3] يوعبون: أن يخرجون بأجمعهم في المغازي.

[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/312).

[5] انظر: فتح القدير للشوكاني (4/56).

[6] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/315)، وفتح القدير (4/53)، وروح المعاني (18/219-220).

[7] مفردات ألفاظ القرآن للراغبي الأصفهاني (226).

[8] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/316).

[9] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/317).

[10] انظر: فتح القدير (4/53).

[11] أحكام القرآن لابن العربي (3/426).

[12] أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات باب: ما للرجل من مال ولده (2291)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري وله شاهد من حديث عائشة رواه أصحاب السنين الأربعة وابن حبان في صحيحه ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة برقم (1855).

[13] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/311)، وتفسير القرآن العظيم (3/316)، وتيسير الكريم الرحمن (5/446).

[14] أخرجه مسلم في كتاب الأشربة باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2018).

[15] أخرجه ابن ماجة في التجارات باب: ما للرجل من مال ولده (2291) من حديث جابر بن عبد الله. قال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري وله شاهد من حديث عائشة رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو والحديث صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة برقم (1855).

[16] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/314).

[17] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/315).

[18] القول للقرطبي رحمه الله.

[19] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/316).

[20] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/319).

 
.