.

  الحاكمية: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام :    الصفحة السابقة     الصفحة التالية     لصفحة الرئيسية)

 

ثالثاً: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام:

إن من مقتضى الإيمان بالله عز وجل الإيمان بحكمه سبحانه وقبوله والرضا به والتسليم له، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أقسم الله بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمّن الإشارة إلى صحة رسالته صلى الله عليه وسلم أقسم بها قسمًا مؤكدًا أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:

الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.

الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف"[1].

وقال ابن حزم رحمه الله: "فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا، وأخبر تعالى أنه لا إيمان إلا ذاك، مع أنْ لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينًا أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد"[2].

وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران:23].

وقال الله تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور:47-51].

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 60-62].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ذمّ المدَّعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيب المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله، في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضًا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا: إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات"[3].

فإذا كان المتأوّل الذي رد أحكام الشرع بالظنون والشبهات له نصيب من هذا الوعيد فكيف بمن إذا دعي إلى تحكيم الشرع المنزّل قال: "السيادة للشعب وليست للدين" لا شك أن هذا منافٍ للإيمان ومناقض للإسلام.

قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية ناطقة بأن من صدّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدًا ولاسيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقًا لا يعتدّ بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام"[4].

وقال ابن القيم رحمه الله مبينًا التلازم بين الإيمان وبين رد الخصومات والنزاعات إلى شرع الله تعالى: "جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورةَ انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولاسيما التلازم بين هذين الأمرين، فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة"[5].

وقال ابن كثير رحمه الله: "فدل على أن من لم يتحاكم في محلّ النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر"[6].

وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان، فدل ذلك على أن من لم يردّ إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون...} الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب في ذلك"[7].

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه"[8].

وإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام التام لله عز وجل ولا يتم ذلك إلا بقبول دينه والتسليم لشرعه والرضا بحكمه، قال ابن تيمية رحمه الله: "فالإسلام يتضمّن الاستسلام لله وحده، فمن أسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده"[9].

وهذا هو معنى الرضا بالإسلام دينًا، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الرضا بدينه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته"[10] .


[1] المجموع الثمين (1/35).

[2] الدرة (ص 338).

[3] مجموع الفتاوى (12/339-340).

[4] تفسير المنار (5/227).

[5] إعلام الموقعين (1/49-50).

[6] تفسير ابن كثير (3/209).

[7] تفسير السعدي (2/90).

[8] تحكيم القوانين (ص 2).

[9] مجموع الفتاوى (3/91).

[10] مدارج السالكين (2/118).

 

.