.

  الحاكمية : ثانياً: توحيد الحاكمية :          الصفحة السابقة        الصفحة التالية        لصفحة الرئيسية)

 

ثانياً:  توحيد الحاكمية:

قبل الخوض في الكلام عن توحيد الحاكمية لا بدّ من تقديم مقدمة في بيان أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة. وذلك فيما يلي:

1- أقسام التوحيد:

التوحيد عند أهل السنة والجماعة قسمان:

1)    توحيد المعرفة والإثبات، ويضم توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العلمي، وبتوحيد الكلمات الكونيات، وبتوحيد أفعال الله تعالى وصفاته.

2)    توحيد القصد والطلب، وهو توحيد الألوهية، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العملي، وبتوحيد الكلمات الشرعيات، وبتوحيد أفعال العباد لله تعالى.

ويجب أن يعلم أن هذا التقسيم من الحقائق الشرعية التي دلّ عليها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أمرًا حادثًا، أو أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء، بل من استقرأ الآيات الواردة في التوحيد في كتاب الله تعالى وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع، ولا تقصُر عنها[1].

إذا عُلم أن أقسام التوحيد اثنان أو ثلاثة يجب أن يعلم بأنّه لا تعارض بين هذين التقسيمين؛ لأن من جعله اثنين اعتبر ما يجب على قوتي العبد: قوته الإدراكية العلمية، وقوّته الإرادية العملية، فهو بحسب ما يجب على العبد، ومن جعله ثلاثة لاحظ أن ما يجب على قوة العبد العلمية إما راجع إلى أفعال الله تعالى أو إلى صفاته، فصارت القسمة ثلاثية، فهو بحسب متعلَّق التوحيد.

ويرى بعض العلماء أن التوحيد أربعة أقسام، فزاد توحيد المتابعة وهو إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالطاعة والاتباع، وذلك إتمامًا للشهادتين، ولا مشاحاة في ذلك ما دَام المعنى المقصود صحيحًا.

وبعد هذه المقدّمة عن أقسام التوحيد نتطرّق إلى الكلام عن توحيد الحاكمية من خلال الأسئلة التالية:

2- عبارة "توحيد الحاكيمة":

إنّ التعبير بـ "توحيد الحاكمية" لا محذور فيه ما لم يتضمن معنى فاسدًا، فإذا تضمن ذلك كان اللفظ صحيحًا والقصد فاسدًا سيِّئا، ولذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج لما قالوا له: "لا حكم إلا الله" وكان قصدهم فاسدًا، قال لهم مقولته المشهورة: "كملة حق أريد بها باطل"[2].

قال النووي رحمه الله: "معناه أن الكلمة أصلُها صِدق، قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه"[3].

فإذا كان المعنى المقصود من هذه العبارة صحيحًا فلا محذور فيها، ولكن متى ما تضمّنت معنى فاسدًا كتكفير أصحاب المعاصي أو تكفير كل من خالف شرع الله في حكمٍ إمّا جهلاً وإما خطأ وإمّا مكرهًا وإما لشهوة وإمّا لشبهة، فهذه يقال فيها مثل ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كلمة حق أريد بها باطل" فلم يحمله المعنى الباطل المراد من تلك الكلمة على ردّها مطلقًا، وهذا من كمال علمه ودقّة فقهه وشدّة احترازه من أن يردّ باطلاً بباطل رضي الله عنه.

فإن قيل: إن عبارة "توحيد الحاكمية" مصطلح حادث لم يجر على ألسنة العلماء المعتبرين.

فالجواب: أن العبرة بالمعاني لا بالمباني، والأمور بمقاصدها، ولشيخ الإسلام كلام نفيس في الألفاظ التي اصطلح عليها المتكلمون ولم ترد في الكتاب والسنة، ولا جرت على ألسنة سلف الأمة. وهذا نصّه: "وهذا التقسيم ينبّه أيضًا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله، إذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدلّ على المقالات الباطلة. فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكمًا ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحاتهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة... فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرّد ما فيه من الاصطلاحات المولَّدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات... فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت بحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا في الوسائل والمسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم، وهذا من مثارات الشبه"[4].

فإذا كان هذا في الاصطلاحات الموَلّدة التي كان الغرض من وضعها التسلل إلى نفي الصفات أو تأويلها، فكيف الأمر بالنسبة لعبارة صحيحة أساء فهمها أو استخدامها بعض الناس؟!

3- المقصود من توحيد الحاكمية:

المراد بتوحيد الحاكمية إفراد الله عز وجل بالحكم، وهو أن يعتقد العبد أن الحكم لله سبحانه وحده لا شريك له فيه، فله الحكم في الدنيا، وله الحكم في الآخرة، وله الحكم الكوني، وله الحكم الشرعي، فمن اعتقد أن أحدًا غير الله يحكم بين العباد يوم القيامة، أو اعتقد أن أحدًا غير الله يتحكم في الكون ويتصرف فيه، أو اعتقد أنه يجوز الخروج عن شريعة الله أو تشريع ما لم يأذن به الله، فهذا قد نقض هذه الشعبة العظيمة من شعب الإيمان, وخلع ربقة الإسلام من عنقه والعياذ بالله.

وقد جمع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذه المعاني لتوحيد الحاكمية فقال: "فإن الربّ والإله هو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى، بحيث تكون الطاعات كلها تبعًا لطاعته"[5].

وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين:8]: "وحكمُه يتضمن نصره لرسوله على من كذّبه وجحد ما جاء به، بالحجة والقدرة والظهور عليه، وحكمَه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحكمَه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه"[6].

4- علاقة "توحيد الحاكمية" بأقسام التوحيد:

إن "توحيد الحاكمية" ليس قسيمًا لأقسام التوحيد المشهورة، ولكن له تعلّق بكلّ قسم منها ويندرج تحته باعتبار معيّن:

أ- علاقته بتوحيد الألوهية:

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "فسّر العلماء رحمهم الله العبادة بمعانٍ متقاربة، من أجمعها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا يدل على أن العبادة تقتضي الانقياد التام لله تعالى، أمرًا ونهيًا واعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحلّ ما أحل الله، ويحرم ما حرّم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه... فلا يكون عابدًا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى... فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له... والعبودية لله وحده، والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه، من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فالله سبحانه هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر سبحانه، والواجب طاعة أمره... ومما تقدم يتبين لك أيها المسلم أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه ممّا أوجبه الله ورسوله وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم"[7].

ومن الأدلة الواضحة الدالة على أن توحيد الحاكمية شعبة من شعب توحيد الألوهية وأن الإشراك فيه إشراك في العبادة قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].

فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرم الله فتحلونه؟!)) قال: قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم))[8].

وعن أبي البختري قال: "انطلَقوا إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلَقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا: اعبدونا لم يفعلوا"[9].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال"[10].

وقال أيضاً: "هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام[11] ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))"[12].

وقال ابن حزم رحمه الله: "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادةً، وهذا هو الشرك بلا خلاف"[13].

ب- علاقته بتوحيد الربوبية:

بيّن كبار علماء العصر: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود اندراج هذا النوع تحت توحيد الربوبية، وذلك في إجابة لهم عن سؤال عن أنواع التوحيد وتعريف كل منها، فكان جوابهم:

"أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر التصريف والتدبير لملكوت السموات والأرض، وإفراده تعالى بالحكم والتشريع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54]، وتوحيد الألوهية:..."[14].

فمن جعل التشريع حقًا لغير الله تعالى فقد وقع في شرك الربوبية، قال الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله متكلمًا عن شرك الربوبية: "هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله"[15].

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من لوازم إفراد الله تعالى بالربوبية إفراده تعالى بالحكم. قال تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59].

قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم، سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم"[16].

وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "إن الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمّى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابًا لمتبعيهم فقال سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]، فسمّى الله المتبوعين أربابًا حيث جُعلوا مشرِّعين مع الله تعالى، وسمّى المتبعين عبادًا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى..."[17]. ثم ذكر حديث عدي ابن حاتم المشهور.

فمن أعطى أهلية التشريع ووضع القوانين والأحكام لأمثاله من البشر فقد وقع في شرك الربوبية، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن هؤلاء المقننين والمشرعين: "وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية، سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه"[18].

ج- علاقته بتوحيد الأسماء والصفات:

إن من أسماء الله عز وجل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم الحَكَم والحاكم والحكيم.

قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكمًا وهو الذي أنزل عليكم الكتاب مفصلاً} [الأنعام:114].

وقال تعالى: {فاصبر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]، وقال تعالى عن قول نوح: {ربّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45].

وقال تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18، 73] في آيات كثيرة جدًا.

ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنّه يحكُم وأنه سبحانه حكيم في أحكامه كلها.

قال تعالى: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} [الممتحنة:10].

وقال تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة: 1].

وقال تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} [الحج: 56].

وعن شريح عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكَم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: ((فمن أكبرهم؟)) قلت: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح))[19].

فلا يتمّ الإيمان بهذه الصفة لله عز وجل إلا بإثباتها له سبحانه وإفراده تعالى بها، وذلك بالإيمان بأنّ له سبحانه وحده الحكم الشرعي والحكم القدري والحكم الجزائي، فمن أشرك مع الله أحدًا في التشريع، أو أشرك مع الله أحدًا في التقدير، أو أشرك مع الله أحدًا في الحساب والجزاء فقد اختل توحيده للأسماء والصفات.

د- علاقته بتوحيد المتابعة:

قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتّبع المحكَّم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركًا وتحكيمًا عند النزاع"[20].

وقد سبق نقل كلام الشيخ ابن باز رحمه الله في أن تحكيم شرع الله تعالى من مقتضى الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...} [النساء: 65]: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا"[21].

وقال ابن القيم رحمه الله: "أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبلَه على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرّد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض"[22].

وقال أيضًا في معرض بيان معنى الرضا بالنبي صلى الله عليه وسلم رسولاً: "وأما الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه"[23].

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم، ويسلموا تسليمًا"[24] .


[1] انظر: القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد. للأستاذ: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر. والتحذير من مختصرات الصابوني في التفسير (ص 30 حاشية 2) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.

[2] أخرجه مسلم (2/749) [1066] من طريق عبيد الله بن أبي رافع عنه.

[3] شرح صحيح مسلم (7/173-174).

[4] درء التعارض (1/43-45).

[5] القول السديد (ص 102).

[6] التبيان في أقسام القرآن (ص43).

[7] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/77-84).

[8] أخرجه الترمذي (5/259-260) [3095] وحسنه شيخ الإسلام كما في المجموع (3/67) [وهو في صحيح السنن [2471].

[9] أخرجه الطبري في تفسيره (14 / 211-212) [16637].

[10] مجموع الفتاوى (7/67).

[11] كذا العبارة في المجموع وفيها قلب والصواب: بتحريم الحرام وتحليل الحلال.

[12] مجموع الفتاوى (7/70).

[13] الفصل (3/266).

[14] فتاوى اللجنة الدائمة (1/55) الفتوى رقم [8943].

[15] تفسير المنار (2/55).

[16] أضواء البيان (7/163-168) باختصار.

[17] المجموع الثمين (1/33).

[18] أضواء البيان ( ).

[19] أخرجه أبو داود (4955)، والنسائي (5387)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4145).

[20] فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (12/251).

[21] تفسير بن كثير (3/211).

[22] التبيان في أقسام القرآن (ص 270).

[23] مدارج السالكين (2/180).

[24] مجموع الفتاوى (7/37-38).

 

.