.

   تحريم الأنفس المعصومة:  ثالثًا : الحكمة من النكاح وفوائده:     الصفحة السابقة          الصفحة التالية          (عناصر البحث)

 

ثالثًا: الحكمة من النكاح وفوائده:

1- الزوج سكن:

قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].

قال الطبري: "ليأوي إليها لقضاء حاجته ولذَّته"[1].

وقال ابن كثير: "أي: ليألفها ويسكن بها"[2].

2- فيه بقاء النسل الإنساني:

 عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم))[3].

قال المناوي: "وهذا حث عظيم على الحرص على تكثير الأولاد، وفي ضمنه نهي عن العزل، وتوبيخ على فعله، وأنه ينبغي للإنسان رعاية المقاصد الشرعية وإيثارها على الشهوات النفسانية"[4].

وقال شمس الدين آبادي: "((الودود)) أي: التي تحب زوجها، ((الولود)) أي: التي تكثر ولادتها، وقيد بهذين لأن الولود إذا لم تكن ودودا لم يرغب الزوج فيها، والودود إذا لم تكن ولودا لم يحصل المطلوب وهو تكثير الأمة بكثرة التوالد، ويعرف هذان الوصفان في الأبكار من أقاربهن، إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض"[5].

وقال السندي: "((الودود)) أي: كثيرة المحبة للزوج، كأن المراد بها البكر، ويُعرف ذلك بحال قرابتها. وكذا معرفة ((الولود)) أي: كثير الولادة، يعرف بذلك في البكر. واعتبار كونها ودودا مع أن المطلوب كثرةُ الأولاد كما يدل عليه التعليل لأن المحبة هي الوسيلة إلى ما يكون سبباً للأولاد"[6].

3- فيه غض للبصر وإحصان للفرج:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))[7].

قال الصنعاني: "فيه الحث على تحصيل ما يغض به البصر ويحصن الفرج"[8].

قال أبو حامد الغزالي في بيان فوائد النكاح: "وفيه فوائد خمس: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن.

الفائدة الأولى: الولد، وهو الأصل، وله وضع النكاح، والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحِثَّة كالموكَّل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث، تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع. وفي التوصل إلى الولد قربةٌ من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزباً: الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان. والثاني: طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير مباهاته. والثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده. والرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.

أما الوجه الأول: فهو أدقُّ الوجوه وأبعدُها عن أفهام الجماهير، وهو أحقُّها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالى ومجاري حكمه، وبيانه أن السيد إذا سلَّم إلى عبده البذر وآلات الحرث وهيَّأ له أرضا مهيأة للحراثة، وكان العبد قادرا على الحراثة، ووكل به من يتقاضاه عليها، فإن تكاسل وعطَّل آلة الحرث وترك البذر ضائعا حتى فسد، ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحِقا للمقت والعتاب من سيده، والله تعالى خلق الزوجين، وخلق الذكر والأنثيين، وخلق النطفة في الفقار، وهيأ لها في الأنثيين عروقا ومجاري، وخلق الرحم قرارا ومستودَعا للنطفة، وسلَّط متقاضي الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى، فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها، وتنادي أرباب الألباب بتعريف ما أُعدَّت له...

 الوجه الثاني: السعي في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه بتكثير ما به مباهاته؛ إذ قد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. ويدل على مراعاة أمر الولد جملةٌ بالوجوه كلها... قال عليه السلام: ((خير نسائكم الولود الودود)).

الوجه الثالث: أن يُبقي بعده ولدا صالحا يدعو له، كما ورد في الخبر أن جميع عمل ابن آدم منقطع إلا ثلاثا، فذكر: الولد الصالح. وقول القائل: إن الولد ربما لم يكن صالحا، لا يؤثر، فإنه مؤمن، والصلاح هو الغالب على أولاد ذوي الدين، لا سيما إذا عزم على تربيته وحمله على الصلاح. وبالجملة دعاء المؤمن لأبويه مفيد براً كان أو فاجراً، فهو مثاب على دعواته وحسناته فإنه من كسبه، وغير مؤاخذ بسيئاته، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى. ولذلك قال تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـٰهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء} أي: ما نقصناهم من أعمالهم وجعلنا أولادهم مزيدا في إحسانهم.

الوجه الرابع: أن يموت الولد قبله فيكون له شفيعاً، قال صلى الله عليه وسلم: ((من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم))، قيل: يا رسول الله واثنان؟ قال: ((واثنان)). فقد ظهر بهذه الوجوه الأربعة، أن أكثر فضل النكاح لأجل كونه سببا للولد.

الفائدة الثانية: التحصُّن من الشيطان، وكسر التَّوَقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر وحفظ الفرج، وإليه الإشارة بقوله: ((عليكم بالباءة، فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء)).

الفائدة الثالثة: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة، وإراحة للقلب وتقوية له على العبادة، فإن النفس ملول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلاف طبعها. فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروِّح القلب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات، ولذلك قال الله تعالى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((حبب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).

فهذه أيضا فائدة لا ينكرها من جرَّب إتعاب نفسه في الأفكار والأذكار وصنوف الأعمال، وهي خارجة عن الفائدتين السابقتين.

 الفائدة الرابعة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل، والتكفل بشغل الطبخ، والكنس والفرش، وتنظيف الأواني، وتهيئة أسباب المعيشة. فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده، إذ لو تكفَّل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته، ولم يتفرَّغ للعلم والعمل. فالمرأة الصالحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق، واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوِّشات للقلب ومنغِّصات للعيش. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: الزوجة الصالحة ليست من الدنيا، فإنها تفرغك للآخرة. وإنما تفريغها بتدبير المنزل وبقضاء الشهوة جميعا.

الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن، والقيام بتربيته لأولاده. فكل هذه أعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعية، وفضل الرعاية عظيم، وإنما يحترز منها من يحترز خيفةً من القصور عن القيام بحقها، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).

فهذه فوائد النكاح في الدين التي بها يحكَم له بالفضيلة"[9].

وقال ابن القيم في ذلك: "استدل على تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة بأن الله تعالى عز وجل اختار النكاح لأنبيائه ورسله، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} [الرعد:38]، وقال في حق آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، واقتطع من زمن كليمه عشر سنين في رعاية الغنم مهرَ الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات، واختار لنبيه محمد أفضلَ الأشياء فلم يحب له ترك النكاح بل زوَّجه بتسع فما فوقهن، ولا هدي فوق هديه. ولو لم يكن فيه إلا سرور النبي يوم المباهاة بأمته، ولو لم يكن فيه إلا أنه بصدد أنه لا ينقطع عمله بموته، ولو لم يكن فيه إلا أنه يخرج من صلبه من يشهد بالله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله تعالى، ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها فهو في لذاته وصحائف حسناته تتزايد، ولو لم يكن فيه إلا ما يثاب عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللقمة إلى فيها، ولو لم يكن فيه إلا تكثير الإسلام وأهله وغيظ أعداء الإسلام، ولو لم يكن فيه إلا ما يترتَّب عليه من العبادات التي لا تحصل للمتخلي للنوافل، ولو لم يكن فيه إلا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه، فإن تعلُّق القلب بالشهوة أو مجاهدته عليها تصدّه عن تعلّقه بما هو أنفع له، فإن الهمة متى انصرفت إلى شيء انصرفت عن غيره، ولو لم يكن فيه إلا تعرُّضُه لبنات إذا صبر عليهن وأحسن إليهن كنَّ له سترا من النار، ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدَّم له فرطين لم يبلغا الحنث أدخله الله بهما الجنة، ولو لم يكن فيه إلا استجلابه عون الله له فإن في الحديث المرفوع: ((ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد))"[10].


[1] جامع البيان 9/142).

[2] تفسير القرآن العظيم (2/285).

[3] أخرجه أبو داود في النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050) واللفظ له، والنسائي في النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم (3227)، والطبراني في الكبير (20/(508). وصححه ابن حبان (4056)، والحاكم (2/162)، والألباني في صحيح أبي داود (1805).

[4] فيض القدير (2/187).

[5] عون المعبود (6/33-34).

[6] حاشية السندي على النسائي.

[7] أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه الغزبة (1905) واللفظ له، ومسلم في النكاح (1400).

[8] سبل السلام (3/110).

[9] إحياء علوم الدين (2/75) وما بعدها بتصرف.

[10] بدائع الفوائد (3/158-159).

 

.