الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

  العدل: خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل:            الصفحة السابقة            الصفحة التالية           (الصفحة الرئيسة)

 

خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل:

من أساليب أهل الباطل من الكفار والمبتدعة في الترويج لباطلهم العمد إلى ألفاظ ممدوحة شرعا محبوبة إلى الفطر السليمة والعقول المستقيمة، فيحرفون مدلولها ويطلقونها على معنى من المعاني الباطلة التي يريدون ترويجها على العامة بهذا السبيل الماكر.

من ذلك: استعمال المعتزلة للفظ العدل، وتمجيدهم له حتى صار أصلا من أصولهم الخمسة، وهم يريدون به معنى باطلا في غاية القبح، وهو نفي قضاء الله تعالى وقدره، قال ابن تيمية: "جعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنه لم يخلق أفعال العباد، فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل، وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة"[1].

وقال ابن القيم: "جحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال وسموه توحيدا، وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال وسموا ذلك عدلا، وقالوا: نحن أهل العدل والتوحيد، فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها، وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى وتحريف معانيها عما هي عليه، فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلا، وعدلهم شركا"[2].

من ذلك: استعمال الجبرية للعدل وإطلاقهم إياه في حق الله تعالى على كل مقدور، قال ابن القيم: "زعمت طائفة أن العدل هو المقدور، والظلم ممتنعٌ لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا، وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره، فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وصعُب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل، ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعُب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات... فصار توحيدهم تعطيلا وعدلهم تكذيبا بالقدر، وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية والغي على من شاء فذلك محض العدل فيه؛ لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سدادٌ وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله... فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل... والمقصود أن قوله: ((ماض في حكمك، عدل في قضاؤك)) رد على الطائفتين القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون: كل مقدور عدل، فلا يبقى لقوله: ((عدل في قضاؤك)) فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله، والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ في قضاؤك، وهذا هو الأول بعينه"[3].

ومن ذلك: إطلاق الكفار والعلمانيين ودعاة حقوق الإنسان العدل على كثير من المبادئ والأفكار المخالفة للدين الحق، بل ربما بعضها يصادم أديانهم المحرفة، كإطلاقهم العدل على التسوية بين المختلفَيْن، ويندرج تحت هذا صورٌ كثيرة، منها التسوية في الحقوق السياسية بين الخاصة والسوقة، وبين العلماء والسفهاء، وبين الخبير بالشأن والعجوز التي لا تعلم شيئا عما هو خارج عن نطاق بيتها، فيجعلون أصوات هؤلاء كلِّهم على حد سواء بزعم العدل، وهذا غاية الظلم، وهو منافٍ للعقل السليم الراجح.

وكثير من هؤلاء الكفار وأتباعهم الذين ضعف الإيمان بالله في قلوبهم يطعنون في بعض أحكام الإسلام بأنها مخالفة للعدل، فيشككون بذلك في الإسلام، كجعل دية المرأة نصف دية الرجل، وميراثها على النصف من ميراث الرجل إلى غير ذلك من الأحكام التي شرعها أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.

ولهم سلف في هذا المسلك المرذول فقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال:

يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت              ما بالها قطِعت في ربع دينار؟!

تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له              وأن نعـوذ بمولانا من النـار

ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلَّبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي  أن قال: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت"، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمس مائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدْر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب[4].


 


[1] دقائق التفسير (2/144).

[2] بدائع الفوائد (2/392).

[3] الفوائد (ص 24-26).

[4] انظر تفسير ابن كثير (2/56-57).

 

.