موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  ما يتعلق بالمسافر من أحكام الصلاة: ثانياً: الجمع بين الصلاتين:                   الصفحة السابقة        (عناصر البحث)         الصفحة التالية     

 

ثانيًا: الجمع بين الصلاتين:

اتفق العلماء على أن الحاج يجمع الظهر والعصر بعرفة جمع تقديم، والمغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير، فهذا الجمع لم يتنازع الفقهاء فيه؛ لأنه منقول بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم([1]).

واختلف العلماء في جواز الجمع بعذر السفر على أقوال:

فذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه ومالك في رواية إلى أنه يجوز للمسافر أن يجمع بين الصلاتين مطلقًا سواء كان نازلاً أو غير نازل، وسواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير. وهذا أوسع الأقوال.

وذهب مالك في المشهور عنه وأحمد في الرواية الأخرى أن المسافر يجمع إذا كان سائرًا، سواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير، ولا يجمع إذا كان نازلاً، بل عند مالك إذا جدَّ به السير([2])، وهذا القول اختاره ابن القيم رحمه الله([3]).

وذهب أحمد في رواية ثالثة إلى أن للمسافر أن يجمع جمع التأخير فقط، وليس له أن يجمع جمع تقديم، وبه قال ابن حزم([4]).

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن المسافر لا يجمع لا جمع تقديم ولا جمع تأخير، ولا جمعَ عنده إلا في عرفة ومزدلفة([5]).

والراجح ـ والله أعلم ـ أنه يشرع للمسافر الجمع بين الصلاتين متى ما احتاج إلى ذلك، بحيث لو لم يجمع لوقع في الحرج، سواء كان نازلاً أو سائرًا؛ لأن المقصود بالجمع رفعُ الحرج، لكن لما كان الحرج في الغالب مظِنتُه السير دون النزول قيّد بعض العلماء الجمع بهذه المظنة وهي أن يكون سائرًا غير نازل.

قال ابن تيمية رحمه الله: "الجمع بين الصلاتين ليس معلقًا بالسفر، وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر"([6]).

وأحاديث جمع التأخير ثابتة في الصحيح، أما حديث جمع التقديم ففيه مقال مشهور عند علماء الحديث، ولذا فالأحوط للمرء أن لا يجمع جمع تقديم إلا إذا غلب على ظنه أنه لا يكون نازلاً في وقت الثانية؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الجمع فإنما كان صلى الله عليه وسلم يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير، وكان له عذر شرعي، كما جمع بعرفة ومزدلفة، وكان يجمع في غزوة تبوك أحيانًا، كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعًا، وهذا ثابت في الصحيح.

وأما إذا ارتحل بعد الزوال فقد رُوي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعًا، كما جمع بينهما بعرفة، وهذا معروف في السنن، وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب، كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس، وأما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها"([7]).

اتفق العلماء على أن أداء كل صلاة في وقتها أفضل للمسافر من الجمع بينهما، وذلك إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع، قال ابن تيمية رحمه الله: "بل فعلُ كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع؛ فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها، وإنما كان الجمع منه مرات قليلة"([8]).

وتجدر الإشارة هنا إلى خطأ يقع فيه كثير من الناس، وهو ظنُّهم ارتباطَ الجمعِ بالقصر في السفر، وأن كلاهما سُنة ينبغي المحافظة عليها، وليس الأمر كذلك، قال ابن تيمية رحمه الله: "فليس القصر كالجمع، بل القصر سنة راتبة، وأما الجمع فإنه رخصة عارضة، ومن سوَّى من العامة بين الجمع والقصر فهو جاهل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأقوال علماء المسلمين، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّقت بينهما، والعلماء اتفقوا على أن أحدهما سنة، واختلفوا في وجوبه، وتنازعوا في جواز الآخر ـ أي الجمع ـ فأين هذا من هذا؟!"([9]).

وقال أيضًا: "فقهاء الحديث يختارون قصر الصلاة في السفر اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصلِّ في السفر قط رباعيةً إلا مقصورة، ومن صلى أربعًا لم يبطلوا صلاته... وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا مراتٍ قليلة، فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حين جد به السير، حتى اختلفوا عن أحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا؟ ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر في السفر، مختلفين في جواز الإتمام، ومجمعين على جواز التفريق بين الصلاتين، مختلفين في جواز الجمع بينهما"([10]).

وقال: "وهذا يبيِّن أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر، بل يُفعل للحاجة، سواء كان في السفر أو الحضر، فإنه قد جمع صلى الله عليه وسلم أيضًا في الحضر لئلا يحرج أمتَه. فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع، سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق النزول عليه، أو كان مع نزوله لحاجة أخرى، مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر، ووقت العشاء، فينزل وقت الظهر وهو تعبان سهران جائع، محتاج إلى راحة وأكل ونوم، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يحتاج أن يقدِّم العشاء مع المغرب، وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع، وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر، وهو في ذلك كأهل المصر، فهذا وإن كان يقصر لأنه مسافر فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة، ولا يصلي بالتيمم، ولا يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة، ولا حاجة به إلى ذلك، بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر"([11]).

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر))([12]).

وعن أبي العالية عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (جمعُ الصلاتين من غير عذر من الكبائر)([13]).

وعن أبي قتادة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهبى)([14]).


 


([1]) انظر: مجموع الفتاوى (24/23).

([2]) انظر: المدونة (1/11) والمنتقى للباجي (1/252).

([3]) انظر: زاد المعاد (1/481).

([4]) انظر: المحلى (3/165).

([5]) انظر: الحجة على أهل المدينة (1/174)، وتبيين الحقائق (1/88).

([6]) مجموع الفتاوى (24/ 37).

([7]) مجموع الفتاوى (24/ 27).

([8]) مجموع الفتاوى (24/ 19، 22).

([9]) مجموع الفتاوى (24/27 ـ 28).

([10]) مجموع الفتاوى (24/31).

([11]) مجموع الفتاوى (24/ 64 ـ 65).

([12]) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة [188]، وأبو يعلى (5/136)، والطبراني (11/216)، والدارقطني (1/395)، والحاكم (1/275)، والبيهقي (3/169) من طريق حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال الترمذي: "وحنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره"، وقال الدارقطني: "أبو علي الرحبي متروك"، وضعف الحديث أيضًا البيهقي، والذهبي متعقبًا تصحيح الحاكم، وقال الحافظ في التهذيب (2/365): "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، ولا أصل له"، وقال الألباني في ضعيف الجامع [5556]: "ضعيف جدًا".

([13]) أخرجه البيهقي (3/169)، وقال: "هو مرسل؛ أبو العالية لم يسمع من عمر".

([14]) أخرجه البيهقي (3/169) وقال: "أبو قتادة أدرك عمر، فإن كان شهده فهو موصول، وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قويًا".

 

.