موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  ما يتعلق بالمسافر من أحكام الصلاة: أولاً: قصر الصلاة:                   الصفحة السابقة                 الصفحة التالية   

 

أولاً: قصر الصلاة:

يشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، فيصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101].

وظاهر الآية يفيد أن القصر في السفر مقيَّد بحالة الخوف، لكن جاء في السنة ما يدل على ارتفاع هذا القيد، فعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} فقد أمِن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))([1]).

قال ابن تيمية رحمه الله: "ذكر سبحانه الخوف والسفر؛ لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان، فالخوف يبيح قصر الأركان، والسفر يبيح قصر العدد، فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين، وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر"([2]).

وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]([3]).

قال ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه، التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين، ولم يصلها في السفر أربعًا قط، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، لا في حج ولا في عمرة ولا في جهاد"([4]).

وقال أيضًا: "وأما في السفر فقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من ثلاثين سفرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر الفرضَ أربعًا قط، حتى في حجه الوداع، وهي آخر أسفاره، كان يصلي بالمسلمين بمنى الصلوات ركعتين ركعتين، وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله عنه جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم.

والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم، باطل في الإتمام وإن كان صحيحًا في الإفطار؛ بخلاف النقل المتواتر المستفيض، ولم يذكر هذا بعد قط.

وكيف يكون والنبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره إنما كان يصلي الفرض إمامًا، لكن مرة في غزوة تبوك احتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم خلفه بعض الصلاة، فلو صلى بهم أربعًا في السفر لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله، لمخالفته سنته المستمرة، وعادته الدائمة، كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانًا، فلما لم ينقل ذلك أحد منهم علم قطعًا أنه لم يفعل ذلك"([5]).

وأما الإجماع: فقال ابن قدامة رحمه الله: "أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين"([6]).

اتفق العلماء على مشروعية القصر للمسافر، لكن اختلفوا في حكمه، وهل يجوز له الإتمام أم لا؟ على أقوال:

أحدها: قول من يقول: إن الإتمام أفضل، كقولٍ للشافعي، وهذا أضعف الأقوال.

والثاني: قول من يسوِّي بينهما، كبعض أصحاب مالك.

والثالث: قول من يقول: القصر أفضل، والتربيع خلاف الأولى، كقول الشافعي الصحيح، وإحدى الروايتين عن أحمد.

والرابع: قول من يقول الإتمام مكروه، كقول مالك في إحدى الروايتين، وأحمد في الرواية الأخرى، وهي أنصُّهما.

والخامس: قول من يقول: إن القصر واجب، فلا يجوز له أن يصلي أربعًا كما لا يجوز له أن يصلي الفجر والجمعة والعيد أربعًا، كقول أبي حنيفة، ومالك في رواية.

قال ابن تيمية رحمه الله: "وأظهر الأقوال قول من يقول: إنه سنة، وأن الإتمام مكروه، ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه"([7]).

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل القصر واجب؟

فأجاب: "جمهور العلماء على أنه مستحب وليس بواجب، وهو الصحيح؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما أتم عثمان رضي الله عنه في منى صاروا يتمون معه، ولو كان القصر واجبًا لكان تركُه حرامًا، ولما أمكن للصحابة متابعة عثمان على شيء يرونه محرمًا"([8]).

ذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يخرج من بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره؛ لأنه لا يطلق على الشخص أنه مسافر إلا إذا باشر السفر وفعله، ولا يكون ذلك إلا بخروجه من بلده.

قال ابن تيمية رحمه الله: "ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعدُّ في العرف سفرًا، مثل أن يتزود له، ويبرز للصحراء، فأما إذا كان في مثل دمشق، وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق، فهذا ليس بمسافر، كما أن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بمنزلة القرى المتقاربة، عند كلِّ قوم نخيلُهم ومقابرهم ومساجدهم، قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرًا، ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقصرون في مثل ذلك، فإن الله تعالى قال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] فجميع الأبنية تدخل في مسمى المدينة، وما خرج عن أهلها فهو من الأعراب أهل العمود، والمنتقل [في] المدينة من ناحية إلى ناحية ليس بمسافر، ولا يقصر الصلاة، ولكن هذه مسائل اجتهاد، فمن فعل منها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر"([9]).

وبناء على ما تقدم فلا يشرع للمسافر الذي ينتظر رحلته في المطار أن يقصر الصلاة إذا كان هذا المطار في حي من أحياء المدينة التي هو منها، أما إذا كان منفصلاً عن المدينة خارجًا عنها، فهذا يشرع له القصر والله أعلم([10]).


 


([1]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين [686].

([2]) مجموع الفتاوى (24/20).

([3]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين [689].

([4]) مجموع الفتاوى (22/541).

([5]) مجموع الفتاوى (22/78).

([6]) المغني (3/105).

([7]) مجموع الفتاوى (24/9، 10، 21ـ22).

([8]) إعلام المسافرين ببعض آداب وأحكام السفر وما يخص الملاحين الجويين (ص 39).

([9]) مجموع الفتاوى (24/ 15 ـ 16).

([10]) انظر: إعلام المسافرين ببعض آداب وأحكام السفر للشيخ ابن عثيمين (ص 38).

 

.