موسوعة البحـوث المنــبرية 

.

   ذم التشبه بالكفار: سادسًا: ضوابط وقواعد:            الصفحة السابقة        (عناصر البحث)        الصفحة التالية   

 

سادسًا: ضوابط وقواعد:

لكي تكون مسألة التشبه بالكفار واضحة جلية لجميع الناس ذكر العلماء جملة من الضوابط والقواعد الشرعية من خلال استعراض الأدلة من القرآن الكريم ثم من السنة النبوية الصحيحة الواردة في النهي عن تشبه المسلمين بالكفار، وإجماع المسلمين في العصور الفاضلة على ذلك, ومن تلكم الضوابط والقواعد ما يلي:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الأمة لا بد أن تتبع سنن من كان قبلها من الأمم الأخرى.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].

قال ابن حجر: "والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقَهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم"[2].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع))، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))[3].

قال ابن تيمية: "فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم"[4].

قال ابن بطال: "أعلَمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من الناس"[5].

قال ابن حجر: "وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك"[6].

ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طائفة من أمته ستبقى مستمسكة بالحق.

 فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))[7]، وفي حديث معاوية رضي الله عنه: ((لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم))[8].

قال ابن تيمية: "أخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم. وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة, [وقد] عُلِم بخبره الصادق أن في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا, وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ"[9].

"وهذه القواعد لا يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض عند النظر في مسائل التشبه، لأنا لو فصلنا هذه النصوص بعضها عن بعض لتوهم بعض الناس أن المسلمين كلهم سيقعون في التشبه، وهذا لا يمكن أبدًا؛ لأن هذا يناقض حفظ الدين، والله تعالى تكفل بحفظه، ولأن هذا يناقض إخباره صلى الله عليه وسلم بأن في أمته طائفة ستبقى على الحق ظاهرة، كما أنا لو أخذنا بهذا الحديث الآخر وهو: ((ستبقى طائفة)) ولم نأخذ بالحديث الأول وهو: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) لتوهم بعض الناس أن هذه الأمة معصومة من الوقوع في التشبه بالكافرين.

والأمر ليس بهذا ولا بذاك، إنما ستبقى الأمة الأوسط أهل السنة والجماعة، هم الذين على السنة لا يتشبهون. والفرق الأخرى التي افترقت عن أهل السنة والجماعة إنما افتراقها صار بوقوعها في التشبه, فما من طائفة من طوائف الأمة خرجت عن السنة إلا وقعت في شيء من سنن الأمم الهالكة"[10].

ثالثًا: لا يكون التشبه بالكفار إلا بفعل ما اختصوا به من دينهم أو من عاداتهم.

قال ابن عثيمين: "مقياس التشبه أن يفعل المتشبِّه ما يختص به المتشبَّه به. فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبّهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى.

وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال (1/272): وقد كره بعض السلف لبس البُرْنُس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى! قال: كان يلبس ها هنـا. اهـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس)) الحديث[11] لكان أولى.

وفي الفتح (1/307) أيضًا: وإن قلنا: النهي عنها ـ أي: عن المياثر الأرجوان ـ من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة والله أعلم. اهـ"[12].

رابعًا: إن جنس المخالفة للكافرين والأعاجم ونحوهم أمر مقصود للشارع، وإن التشبه بهم منهي عنه في الجملة في عامة أمورهم الدينية والدنيوية[13].

خامسًا: أن هناك أمورًا خُصّت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك.

سادسًا: أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا ـ نحن المسلمين ـ في دنيانا وآخرتنا.

سابعًا: أنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم إلا وهو إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون اتباعنا لهم فيه مضرًا؛ إما بدنيانا وآخرتنا أو أحدهما وإن لم ندرك ذلك[14].

ثامنًا: كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصية ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدًا للذريعة وحسمًا للمادة.

تاسعًا: لا تشبه فيما اتفقت عليه الملل.

عاشرًا: ما كان منهيًا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة.

حادي عشر: كل فعل يفعله المسلم تشبهًا بالكفار أو يؤدي إلى التشبه بهم فلا يعان عليه.

ثاني عشر: كل تشبه تضمّن تدليسًا فهو محرم[15].

ثالث عشر: يجب التفريق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم.

قال ابن تيمية: "واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقًا يجب اعتباره، وإجمالاً يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين"[16].


[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم, باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).

[2] فتح الباري (6/574).

[3] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة, باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن..)) (7319).

[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/81).

[5] انظر: فتح الباري (13/314).

[6] فتح الباري (13/314).

[7] أخرجه مسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1920).

[8] أخرجه البخاري في المناقب, باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر (3641), ومسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1037).

[9] اقتضاء الصراط المستقيم (1/83).

[10] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 16).

[11] أخرجه البخاري في العلم (134), ومسلم في الحج (1177) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[12] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/47-48).

[13] اقتضاء الصراط المستقيم (1/196، 473).

[14] القواعد من (4-7)، ذكرها الدكتور ناصر العقل في مقدمة تحقيقه لكتاب اقتضاء الصراط المستقيـم (1/49-50).

[15] القواعد من (8-12) ذكرها جميل اللويحق المطيري في كتابه التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي.

[16] اقتضاء الصراط المستقيم (1/410) وما بعدها باختصار.

 
.