التوبة والاستغفار

.

  التوبة والاستغفار: الفصل السادس: مسائل في التوبة:                  الصفحة السابقة                 الصفحة التالية

 

الفصل السادس: مسائل في التوبة:

1- التوبة الواجبة والتوبة المستحبة:

فالتوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والتوبة المستحبة تكون من فعل المكروهات وترك المستحبات.

فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين[1].

2- التوبة النصوح:

هي الخالصة الصادقة الناصحة، الخالية من الشوائب والعلل، وهي التي تكون من جميع الذنوب، فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار.

وهي التي تقع لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، ليست لحفظ الجاه والمنصب والرياسة، ولا لحفظ الحال أو القوة أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدنيا أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات[2].

قال ابن كثير عند قول الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ}: "أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمّ شعث التائب وتجمعه وتكفه عما يتعاطاه من الدناءات"[3].

وقال الألوسي: "وجوز أن يكون المراد بالتوبة النصوح توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور أثرها في صحابها واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضاها"[4].

3- التوبة الخاصة من بعض الذنوب:

الواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر، قبلت توبته مما تاب منه، ما لم يصر على ذنب آخر من نوعه.

أما إذا تاب من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه. مثال ذلك أن يتوب من الربا وهو مُصّر على السرقة وشرب الخمر، فتقبل توبته مما تاب منه، أما إذا تاب من نوع من أنواع الربا وهو مُصّر على نوع آخر منه، أو تاب من نوع منه وانتقل إلى نوع آخر فلا تقبل توبته، كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مُصّر على ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة وهو مُصّر على الزنا بأخرى، فإن توبته لا تصح. وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة وهي فرض منه، لا تتعلق بالتوبة من غيره، فهذه هي التوبة الخاصة[5].

وسر المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية، فيكون تائباً من وجه دون وجه، كالإسلام والإيمان[6].

وهذا هو قول جمهور أهل السنة والجماعة[7].

ثم إن على العبد إذا وفقه الله لترك ذنب من الذنوب أن يسعى في التخلص من الباقي؛ لأن الإصرار على الذنوب يقود إلى ذنوب أخرى، فالحسنة تهتف بأختها والسيئة كذلك.

4- التخلص من الحقوق والتحلل من المظالم:

فالتوبة تكون من حق الله وحق العباد، فحق الله تبارك وتعالى يكفي في التوبة منه الترك كما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك، بل أضاف إليه القضاء والكفارة.

أما حق غير الله فيحتاج إلى التحلل من المظالم فيه وأداء الحقوق إلى مستحقيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات))[8].

ولكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذل الوسع في ذلك فعفو الله مأمول[9].

5- توبة العاجز عن المعصية:

إذا ِحيل بين العاصي وبين أسباب المعصية فعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه فهل تصح توبته إذا تاب؟ وذلك كحال السارق إذا قطعت أطرافه الأربعة، وكالزاني إذا جُب، وكمن حكم عليه بالسجن المؤبد، فهل لهؤلاء توبة، مع أنه قد حيل بينه وبين ما كان يفعله من معاصي؟

قال ابن القيم بعد أن ذكر الأقوال والخلاف في هذه المسألة "القول الثاني: وهو الصواب أن توبته ممكنة بل واقعة، فإن أركان التوبة مجتمعة فيه، والمقدور له منها الندم، وفي المسند مرفوعاً ((الندم توبة))[10]، فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه فهذه توبة، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه على الذنب ولومه نفسه، ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم، ونيته أنه لو كان صحيحاً والفعل مقدوراً له لما فعله، وإذا كان الشارع قد نَزّل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً))[11]، وفي الصحيح أيضاً: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة، حبسهم العذر))[12].

وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية، التارك لها قهراً مع نية تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى"[13].

6- معنى التوبة من قريب والتوبة عند الموت:

قال الله تعالى: {إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].

قال ابن رجب: "وأما التوبة من قريب فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت، فالعمر كله قريب، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن لم يتب فقد بعُد كلَّ البعد كما قيل:

فهم جِيرة الأحياء أما قرارهم           فدانٍ وأما الملتقى فبعيد

فالحي قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها، فإن جسمه في الأرض يبلى وروحه عند الله تنعم أو تعذب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا"[14].

أما إذا عاين العبد أمور الآخرة وانكشف له الغطاء، وشاهد الملائكة فصار الغيب عنده شهادة، فإن الإيمان والتوبة لا تنفعه في تلك الحال.

قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].

فسوّى عز وجل بين من تاب عند الموت ومن تاب من غير توبة، والمراد بالتوبة عند الموت: التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة ومشاهدة الملائكة[15].

وقال ابن رجب: "وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ.

وقال ابن عمر: (التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت)[16].

7- رجوع الحسنات إلى التائب بعد التوبة:

قال ابن القيم: "وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها، ثم تاب منها توبة نصوحاً خالصة عادت إليه حسناته، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها، بل يقال له: تبت على ما أسلفت من خير، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة وصدقة وصلة، وقد قال حكيم بن حزام: يا رسول الله أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية، وصدقة تصدقت بها، وصلة وصلت بها رحمي، فهل لي فيها من أجر؟ فقال: ((أسلمت على ما أسلفت من خير))[17]، وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان واجتمعتا والله أعلم"[18].

قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث المتقدم: "لا مانع من أن يضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه في الكفر تفضلاً وإحساناً"[19].

8- هل التوبة ترجع العبد إلى حاله قبل المعصية؟

إذا كان للعبد حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه لذنب ارتكبه، ثم تاب منه، فهل يعود بعد التوبة إلى ما كان أو لا يعود؟

والجواب أن هذه المسألة قد اختلف فيها السلف على أقوال شتى، ومن أحسن من أجاب على تلك المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب، وكان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة... وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيراً مما كان وأعلى درجة، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطاً عنها"[20].

قال ابن القيم: "وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة"[21].


[1] انظر: رسالة في التوبة (227) لابن تيمية ضمن جامع الرسائل (المجموعة الأولى).

[2] مدارج السالكين (1/316)، وانظر أيضاً: فتح الباري (11/105).

[3] تفسير القرآن العظيم (4/391).

[4] روح المعاني (28/158).

[5] انظر: إحياء علوم الدين (4/40).

[6] انظر: مدارج السالكين (1/285).

[7] انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب الحنبلي (1/157).

[8] أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2429) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] انظر: كتاب التوبة وظيفة العمر للحمد (83).

[10] الحديث أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب ذكر التوبة (4252) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4002) وحسنه الحافظ في الفتح (13/471)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[11] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب:يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (2996).

[12] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (4423).

[13] انظر: مدارج السالكين (1/296).

[14] لطائف المعارف (571).

[15] لطائف المعارف (573).

[16] لطائف ومعارف (573).

[17] أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (1436)، ومسلم في كتاب الإيمان باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (123).

[18] مدارج السالكين (1/293).

[19] فتح الباري (3/354).

[20] انظر: مدارج السالكين (1/302).

[21] مدارج السالكين (1/302).

 

.