الملف العلمي لما يخص المسافر من أحكم الصيام

.

   ما يخص المسافر من أحكام الصيام: الفصل الثاني: فيمن نوى الصوم ثم أفطر:             الصفحة السابقة           الصفحة التالية   

 

الفصل الثاني: فيمن نوى الصوم ثم أفطر:

المسألة الأولى: حكم من أفطر في رمضان وقد نواه من الليل، وتحته صور:

الصورة الأولى: فيمن نوى الصوم وهو مسافر، ثم أراد أن يفطر في نهاره، فهل له الفطر؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول :الجواز، وإليه ذهبت الشافعية والحنابلة([1]).

واستدلوا بما يلي:

1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس([2]).

قال البخاري: "والكديد ماء بين عسفان وقديد".

2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة))([3]).

قال ابن قدامة رحمه الله: "وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه، إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما"([4]).

قال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه"([5]).

القول الثاني: أنه لا يحل له الفطر ذلك اليوم، ولو أفطر لا كفارة عليه، وهو قول الحنفية([6]).

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].

القول الثالث: أنه لا يحل له الفطر، وعليه القضاء والكفارة إن أفطر متعمدا من غير عذر، وهو رواية عن مالك([7]).

قالوا: لأنه كانت له سعة في أن يفطر أو يصوم، فإذا صام ليس له أن يخرج منه إلا بعذر من الله، فإن أفطر كانت عليه الكفارة مع القضاء.

الصورة الثانية: إذا سافر المقيم وقد نوى الصوم في حالة إقامته، فهل له الفطر في ذلك اليوم؟ لهذه الصورة أربع حالات:

الحالة الأولى: أن يبدأ السفر بالليل ويفارق عمران البلد قبل الفجر، فله الفطر بلا خلاف بين العلماء رحمهم الله([8]).

الحالة الثانية: ألا يفارق العمران إلا بعد الفجر، فهنا اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا يجوز له الفطر، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية([9]).

قالوا: لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة.

القول الثاني: أنه يجوز له الفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر، وأصح الروايتين عند أحمد([10]).

واستدلوا بما يلي:

عن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألسنا نرى البيوت؟! فقال أبو بصرة: أرغبتَ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!([11]).

وقالوا: ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر.

الحالة الثالثة: أن ينوي الصيام في الليل ثم يسافر، ولا يعلم هل سافر قبل الفجر أو بعده: الذي يظهر أن من منع الفطر بعد الفجر يمنع الفطر في هذه الحالة؛ لأنه يشك في مبيح الفطر، ولا يباح الفطر إلا بالتعيين الموجب لإباحة الفطر([12]).

الحالة الرابعة: أن يسافر بعد الفجر ولم يكن نوى الصيام، قال النووي رحمه الله: "فهذا ليس بصائم لإخلاله بالنية من الليل، فعليه قضاؤه، ويلزمه الإمساك هذا اليوم؛ لأن حرمته قد ثبتت بطلوع الفجر وهو حاضر"([13]).

ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وهذا شاهد تعمَّد الفطر، فلا يجوز له أن يتلبس برخصة السفر([14]).

فرع: ثم إن القائلين بجواز الفطر اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه الفطر على قولين، هما:

القول الأول: أنه لا يفطر حتى يفارق العمران، وهو مذهب أحمد([15]).

واستدلوا بما يلي:

قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].

قالوا: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.

القول الثاني: له أن يفطر في بيته إن أراد السفر، وهو مروي عن عطاء والحسن، وغيرهم.

واستدلوا بما يلي:

1-    عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له

راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة. ثم ركب ([16]).

قال الترمذي رحمه الله: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحق بن إبراهيم الحنظلي"([17]).

وقال ابن القيم رحمه الله: "وكان الصحابة حين ينشؤون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهدية"([18]).

المسألة الثانية: المسافر يقدم بلداً نهار رمضان وهو مفطر، وفيها صورتان:

الصورة الأولى: أن يقدم بلده في أثناء اليوم، أو بلداً نوى الإقامة فيه:

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يجب عليه الإمساك بقية ذلك اليوم، وهو قول الحنفية([19]).

واستدلوا بما يلي:

عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائما فليصم))([20]).

قالوا: وصوم عاشوراء كان فرضا يومئذ؛ ولأن زمان رمضان وقتٌ شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن، فإذا عجز عن تعظيمه بتحقيق الصوم فيه يجب تعظيمه بالتشبه بالصائمين قضاءً لحقه بالقدر الممكن إذا كان أهلا للتشبه، ونفيا لتعريض نفسه للتهمة.

القول الثاني: أنه لا يجب عليه الإمساك بقية يومه، بل يستحب له، وهو مذهب المالكية والشافعية([21]).

قالوا: لأنه أفطر بعذر، ولا يأكل عند من لا يعرف عذره؛ لخوف التهمة والعقوبة.

الصورة الثانية: إذا دخل بلداً لم ينو الإقامة بها، وإنما كانت له حاجة: فالذي يظهر ـ والعلم عند الله ـ أنه لا يجب عليه الإمساك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة عام الفتح أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر([22])، ولأنه لا يزال متلبسا بالسفر، والرخصة في حقه باقية.

فرع: إذا قدم المسافر في أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء ذلك النهار من حيض أو نفاس، أو برأت من مرض وهي مفطرة، فهل له وطؤها أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: له وطؤها، ولا كفارة عليه، وهو مذهب الحنفية والشافعية([23]).

قالوا: إنهما مفطران فأشبها المسافر والمريض.

القول الثاني: لا يجوز وطؤها، وهو قول الأوزاعي([24]).

المسألة الثالثة: إذا قدم المسافر في أثناء النهار وهو صائم، فهل له أن يفطر باعتبار كونه مسافرا في أول النهار؟

مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز له الفطر، وعللوا ذلك بأن سبب الرخصة قد زال قبل الترخص بالفطر في حالة السفر، فلم يجز له الترخص بعد زوالها كما لو قدم المسافر وقت الصلاة فإنه لا يجوز له القصر([25]).

فرع: لو قدم المسافر بلده ولم يكن نوى من الليل صوما ولا أكل في نهاره، هل له أن يفطر أم لا بد أن يمسك بقية يومه؟

مذهب الحنفية: أنه يجب عليه أن ينوي الصوم إذا كان وقت للنية، وهو قبل الزوال، وإلا وجب عليه الإمساك لزوال المرخص([26]).

وقال مالك رحمه الله: "إذا علم أنه يدخل بيته من سفره في أول النهار فليصبح صائما، وإن لم يصبح صائما وأصبح ينوي الإفطار ثم دخل بيته وهو مفطر فلا يجزئه الصوم وإن نواه، وعليه قضاء هذا اليوم"([27]).

وبه قال الشافعي رحمه الله([28]).

المسألة الرابعة: هل للمترخص بالفطر في رمضان بسبب السفر أن يصوم غيره من النفل أو النذر أو القضاء؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: قول أبي حنيفة: أنه يقع عما نوى في الواجب من نذر أو قضاء، وإن كان عن نفل فعنه روايتان:

الأولى: وقوعه عما نوى عنه.

الثانية: أنه يقع عن رمضان، وهي الراجحة([29])

ووجه قوله في الواجب، قالوا: إنه يقع عنه لا عن رمضان؛ لأن المسافر له ألا يصوم، فله أن يصرفه إلى واجب آخر؛ لأن الرخصة متعلقة بمظنة العجز وهو السفر، وذلك موجود، بخلاف المريض فإنها متعلقة بحقيقة العجز، فإذا صام تبين أنه غير عاجز.

وأما وقوعه في نية النفل عن رمضان، فقالوا: لأن فائدة النفل الثواب، وهو في فرض الوقت أكثر.

القول الثاني: ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة([30]): إلى عدم جواز الصيام في رمضان عن غيره، فإن نوى صيام غير رمضان لم يصح ذلك.

ووجه قولهم: أن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي  بالأصل.


 


([1]) ينظر: المجموع (6/286)، والمغني (4/347).

([2]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر (1944)، ومسلم في الصيام (1113).

([3]) أخرجه مسلم في الصيام (1114).

([4]) المغني (4/348).

([5]) زاد المعاد (2/57).

([6]) حاشية ابن عابدين (2/431).

([7]) ينظر: المدونة الكبرى (1/180)، والتمهيد (22/51).

([8]) ينظر: المجموع (6/266).

([9]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431)، والمدونة (1/180)، والمجموع (6/287).

([10]) ينظر: المغني (4/346).

([11]) أخرجه أحمد (6/398) واللفظ له، وأبو داود في الصوم، باب: متى يفطر المسافر إذا خرج؟ (2412)، والدارمي في الصوم، باب: متى يفطر الرجل إذا خرج من بيته يريد السفر (1713)، والبيهقي في الكبرى (4/246). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2109).

([12]) ينظر: المجموع (6/266)، وكتاب: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).

([13]) ينظر: المجموع (6/266-267).

([14]) ينظر: المسافر وما يختص به من أحكام، للدكتور: أحمد الكبيسي (ص154).

([15]) ينظر: المغني (4/346).

([16]) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: من أكل ثم خرج يريد السفر (799) واللفظ له، والدراقطني في السنن (2/187)، والبيهقي في الكبرى (4/247). قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وصححه الضياء في المختارة (7/172)، والألباني في رسالته: تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر، والردعلى من ضعفه (ص13-28).

([17]) السنن (799).

([18]) زاد المعاد (2/56).

([19]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103).

([20]) أخرجه البخاري في الصوم، باب: صوم الصبيان (1960)، ومسلم في الصيام (1960).

([21]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202)، والأم (2/88)، والمجموع (6/261).

([22]) أخرجه البخاري في المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان (4275) واللفظ له، ومسلم في الصيام (1113).

([23]) ينظر: بدائع الصنائع (2/103)، والمجموع (6/289).

([24]) ينظر: المجموع (6/289).

([25]) ينظر: الدر المختار ورد المحتار عليه (2/106)، والمدونة الكبرى (1/202)، والمجموع (6/267).

([26]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/431).

([27]) ينظر: المدونة الكبرى (1/202).

([28]) ينظر: الأم (2/87).

([29]) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/378- 379).

([30]) ينظر: المجموع (6/268)، والمغني (4/349).

 

.