الملف العلمي لتفسير آيات الصوم

.

   تفسير آيات الصوم: ثانياً: آية الصوم من سورة النساء:                   الصفحة السابقة                 الصفحة التالية   

 

 

ثانياً: آية الصوم من سورة النساء:

الآيـة (92).

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].

أسباب النزول:

1 ـ عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن أنيسة من بني عامر بن لؤي يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية فقرأها، ثم قال له: ((قم فحرّر))([1]).

وقيل: نزلت في أبي الدرداء رضي الله عنه.

2 ـ عن ابن زيد قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه، كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شعبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف. فقال: لا إله إلا الله. قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئًا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا شققت عن قلبه))، فقال: ما عسيت أجد! هل هو يا رسول الله إلا دم أو ماء؟  قال: ((فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟)) قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟)) حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال ونزل القرآن: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} حتى بلغ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} قال: إلا أن يضعوها([2]).

قال الطبري بعدما ذكر الروايتين: "والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية ما على من قتل مؤمنًا خطأ من كفارة ودية، وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيلة، وفي أبي الدرداء وصاحبه، وأي ذلك كان فالذي عنى الله تعالى بالآية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه"([3]).

وقيل: إنها نزلت في أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصة قريبة من قصة أبي الدرداء رضي الله عنه([4]).

القراءات:

أ ـ {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}

1 ـ {إلا أن يتصدقوا} وهي قراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما([5]).

2 ـ {إلا أن تصَدّقوا} وهي قراءة أبي عبد الرحمن ونبيح([6]).

3 ـ {تصَّدَّقوا} وهي قراءة أبي عمرو([7]).

ب ـ {يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}

قرأ الأعمش {يقتل مؤمنًا إلا خطاء} ممدودًا([8]).

ج ـ {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.

قرأ الحسن {وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ وهو مؤمن}([9]).

المفردات:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}: أي يستحيل ويمتنع أن يصدر من مؤمن قتلُ مؤمن آخر متعمدًا، إلا أن يكون خطأ كأن يرمي صيدًا أو نحوه([10]).

{رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}: الرقبة المؤمنة هي التي صلّت، وعقلت الإيمان([11]) وقيل: سواء كانت الرقبة صغيرة أو كبيرة إذا كانت بين المسلمين أو لمسلم فإنه يجوز([12]).

{وَدِيَةٌ}: الدية: ما يُعطى عوضًا عن دم القتيل إلى وليه([13]).

{مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}: أي مدفوعة إليهم على ما وجب لهم، موفرة غير منتقصة حقوق أهلها منها([14]).

{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل الدية. سمي العفو عنها صدقة ترغيبًا فيها([15]).

{مّيثَاقٌ}: عهد([16]).

{مُتَتَابِعَيْنِ}: أي: لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما([17]).

المعنى الإجمالي:

يخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن يمنعه إيمانه من قتل أخيه المؤمن، ولا التعدي عليه، إذ الإيمان نور يكشف عن مدى قبح هذه الجريمة النكراء فيبني حول صاحبه سياجًا منيعًا يحول دون الإقدام على إزهاق نفسٍ مؤمنة تشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. لكن حينما تقع هذه الجريمة لا تقع إلا في حالة الخطأ، فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله.

ولأجل أنه قد ارتكب فعلاً شنيعًا، وصورته كافية في قبحه، وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة لا أي رقبة، بل يجب أن تكون هذه الرقبة رقبة مؤمنة وذلك فيما لو قتل مؤمنًا خطأ من قومٍ عدوٍ للمسلمين محاربين.

وإن كان المقتول من قوم كافرين وهو مؤمن، أو كافر ولكن بين المسلمين وبين قومه معاهدة، فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين توبة لله تعالى لا يقطع ما بينهما بإفطار إلا إن كان له عذر، فإن قطع التتابع بإفطار يوم واحد استأنف صيامه مرة أخرى.

وهذا كله تشريع من العليم بما يحقق مصالح العباد، الحكيم في تشريعاته وأحكامه([18]).

نصوص ذات صلة:

1 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم))([19]).

2 ـ عن أبي رقية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجني عليك ولا تجني عليه))([20]).

3 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبدٍ أو أمة([21]).

4 ـ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فأسقطت، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف ندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسجعٌ كسجع الأعراب؟!)) فقضى بالغرة على عاقلة المرأة([22]).

5 ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقال: لا إله إلا الله وقتلته؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ([23]).

6 ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة))([24]).

7 ـ عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمةٍ سوداء وقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)) قالت: نعم, قال: ((أتشهدين أني رسول الله؟)) قالت: نعم. قال: ((أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟)) قالت: نعم. قال: ((أعتقها))([25]).

8 ـ عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما جاء بجاريته قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))([26]).

9 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالدُ يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: ((اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد)) مرتين([27]).

10 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ([28]).

الفوائـد:

1.   المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد لأخيه المؤمن إلا خطأ غير مقصود([29]).

2.   حرمة دم المؤمن([30]).

3.   إذا كان القتيل مؤمنًا، وكان من قومٍ كافرين محاربين فالجزاء تحرير رقبة مؤمنة فقط([31]).

4.   إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق فالواجب الدية وتحرير رقبة مؤمنة([32]).

5.   أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل([33]).

6.   شرط عتق الرقبة أن تكون مؤمنة([34]).

7.   لا يجوز قطع التتابع في الصيام إلا لعذر، فإن قطعه فأفطر، فعليه أن يستأنف الصيام من جديد([35]).

*   *   *


([1])  رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (9/ 33)، والبيهقي في السنن الكبرى مختصرًا (8/ 72). قال ابن حجر: روى هذه القصة أبو يعلى مرسلة ـ ثم قال ـ وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت. انظر فتح الباري (12/ 212). وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).

([2])  رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان (9/ 34)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).

([3])  جامع البيان (9/ 34 ـ 35).

([4])  انظر: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 473) وروح المعاني (5/ 113).

([5])  انظر: جامع البيان (9/ 38) والجامع لأحكام القرآن (5/ 323) وفتح القدير (1/ 752).

([6])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).

([7])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 323).

([8])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 313).

([9])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).

([10])  انظر: جامع البيان (9/ 30) وتيسير الكريم الرحمن ص 156.

([11])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).

([12])  انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 474).

([13])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 315).

([14])  انظر: جامع البيان (9/ 37)، وفتح القدير (1/ 751).

([15])  انظر: فتح القدير (1/ 751 ـ 752).

([16])  انظر: جامع البيان (9/ 44).

([17])  تفسير القرآن العظيم (1/ 507).

([18])  انظر: روح المعاني (5/ 113 ـ 114) وتيسير الكريم الرحمن ص 156 ـ 157.

([19])  رواه أبو داود في الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر (2751) وابن ماجه في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم (2685) وقال الألباني في صحيح أبي داود (2390): حسن صحيح، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 314).

([20])  رواه أبو داود في الديات، باب: لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه (4495) والدارمي في الديات، باب لا يؤخذ أحد بجناية غيره (2389). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3773)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 320).

([21])  رواه الترمذي في الديات باب ما جاء في دية الجنين (1411) وأبو داود في الديات باب: دية الجنين (4579) وابن ماجه في الديات، باب: دية الجنين (2639)، وأصله في البخاري في الطب، باب الكهانة (5760) من حديث أبي هريرة، ومسلم في القسامة والمحاربين، باب: دية الجنين (1682) وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 321).

([22])  رواه النسائي في القسامة، باب: صفة شبه العمد (4825) وأبو داود في الديات، باب: دية الجنين (4568) وأصله في البخاري في الطب، باب: الكهانة (5758) ومسلم في القسامة، باب: دية الجنين (1681) عن أبي هريرة وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 322).

([23])  رواه مسلم في الإيمان, باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96)، وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 324).

([24])  رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس} (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين باب: ما يباح به دم المسلم (1676) وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 506).

([25])  رواه أحمد (3/ 451) وعبد الرزاق في المصنف (9/ 175)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 162) وصححه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (1/ 507).

([26])  رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة (537)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).

([27])  رواه البخاري في المغازي باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد (4339)، وانظر تفسير القرآن العظيم (1/ 507).

([28])  رواه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن أحياها...} (6868)، ومسلم في الإيمان باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا)) (65)، وانظر تيسير الكريم الرحمن ص 156.

([29])  انظر: جامع البيان (9/ 30 ـ 31).

([30])  انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).

([31])  انظر: جامع البيان (9/ 31).

([32])  انظر: جامع البيان (9/ 38).

([33])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 325).

([34])  انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 506).

([35])  انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/ 327) وتيسير الكريم الرحمن ص 157.

 

.