موسوعة البحـوث المنــبرية

.

   أصول الأخلاق الإسلامية: رابعًا: عناية الإسلام بالأخلاق:           الصفحة السابقة        (عناصر البحث)        الصفحة التالية   

 

رابعًا: عناية الإسلام بالأخلاق:

قال الفيروزابادي: "واعلم أن الدين كلّه خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين"[1].

وتظهر عناية الإسلام بالأخلاق فيما يلي:

1- أن أعمال العباد وقلوبهم هي محل نظر الرب سبحانه وتعالى:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[2].

قال ابن تيمية: "فعلم أن مجرَّد الجمال الظاهرِ في الصور والثياب لا ينظر الله إليه، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فإن كان الظاهر مزيَّنا مجمَّلا بحال الباطن أحبه الله، وإن كان مقبَّحا مدنسا بقبح الباطن أبغضه الله"[3].

وقال ابن القيم: "اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر وباطن، فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). وهذا الجمال الباطن يزيِّن الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال، فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحُه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابةً وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه ومن خالطه أحبَّه، وهذا أمر مشهود بالعيان. فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورةً، وإن كان أسود أو غير جميل"[4].

2- أنها من مهمَّات الرسل عليهم السلام:

تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق من مهام الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:151]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164].

قال ابن كثير: "يذكِّر تعالى عبادَه المؤمنين ما أنعم عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله المبينات، ويزكيهم أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية"[5].

وقال ابن سعدي: "{وَيُزَكِيكُمْ} أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهما عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التحابِّ والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية"[6].

وقال الله تعالى ممتدحا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [ن:4].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي: إنك على دين عظيم، وهو الإسلام)[7].

وعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ[8].

قال ابن رجب: "يعني: أنه يتأدب بآدابه، فيفعل أوامره ويتجنب نواهيه، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه، وهذا من أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها"[9].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))[10].

قال ابن عبد البر: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل، فبذلك بعث ليتمِّمه صلى الله عليه وسلم. وقد قالت العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق قوله عز وجل: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}" [النحل:90][11].

وقال ابن القيم: "فإن تزكية النفوس مسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوةً وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم"[12].

3- الترغيب في الأخلاق الفاضلة، والترهيب من ضدها:

ويبرز ذلك في نصوص عدة، منها:

أ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاقًا))[13].

قال ابن تيمية: "ومن المعلوم أن أحبَّ خلقه إليه المؤمنون، فإذا كان أكملهم إيمانا أحسنهم خلقا كان أعظمهم محبة له أحسنهم خلقا، والخُلُق الدين كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}"[14].

ب- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ))[15].

ج- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ))، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: ((الْفَمُ وَالْفَرْجُ))[16].

د- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ))[17].

هـ- عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ مَسَاوِيكُمْ أَخْلاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ))[18].

قال ابن القيم: "والثرثار هو الكثير الكلام بتكلف، والمتشدِّق المتطاول على الناس بكلامه الذي يتكلم بملء فيه تفاخما وتعظيما لكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسَّع فيه تكثُّرا وارتفاعا وإظهارا لفضله على غيره"[19].

وقال المناوي: "((إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا)) أي: أكثركم حسنَ خلق، وهو اختيار الفضائل وترك الرذائل؛ وذلك لأن حسن الخلق يحمل على التنزه عن الذنوب والعيوب، والتحلي بمكارم الأخلاق من الصدق في المقال والتلطف في الأحوال والأفعال وحسن المعاملة مع الرحمن والعشرة مع الإخوان وطلاقة الوجه وصلة الرحم والسخاء والشجاعة وغير ذلك"[20].

و- عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالإِثْمِ، فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))[21].

قال ابن القيم: "فقابل البر بالإثم وأخبر أن البر حسن الخلق، والإثم حواك الصدور، وهذا يدل على أن حسنَ الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإثم"[22].

وقال السيوطي: "((البر حسن الخلق)) أي: يطلق على ما يطلق عليه من الصلة والصدق والمبرة واللطف وحسن الصحبة والعشرة والطاعة، فإن البر يطلق على كل مما ذكر، وهي مجامع حسن الخلق"[23].


[1] بصائر ذوي التمييز (2/568).

[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (2564).

[3] الاستقامة (ص357).

[4] روضة المحبين (ص221).

[5] تفسير القرآن العظيم (1/201).

[6] تيسير الكريم الرحمن (1/115).

[7] أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/179).

[8] أخرجه أحمد (6/163) واللفظ له، وأخرجه مسلم (746) بنحوه.

[9] جامع العلوم والحكم (2/99).

[10] أخرجه أحمد (2/381) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد (273)، والبزار (2740ـ كشف الأستار)، والبيهقي في الكبرى (10/191). وصححه الحاكم (2/613)، وابن عبد البر في التمهيد (24/333)، وقال الهيثمي في المجمع (8/188): "ورجاله رجال الصحيح ". وكذا صححه الألباني في الصحيحة (45).

[11] التمهيد (24/332).

[12] مدارج السالكين (2/315).

[13] أخرجه البخاري في المناقب، باب: صفة البني صلى الله عليه وسلم (3559) واللفظ له، ومسلم في الفضائل (2321).

[14] الاستقامة (ص442).

[15] أخرجه أحمد (6/448)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق (2002) واللفظ له، وأبو داود في الأدب، باب: في حسن الخلق (4799). قال الترمذي: "وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأنس وأسامة بن شريك، وهذا حديث حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2641).

[16] أخرجه أحمد (2/442)، والبخاري في الأدب المفرد (289)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق (2004)، وابن ماجه في الزهد، باب: ذكر الذنوب (4246). قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب". وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2642).

[17] أخرجة أبو داود في الأدب، باب: في حسن الخلق (4800) واللفظ له، والطبراني في الكبير (8/98ـ 7488)، والأوسط (4693)، والبيهقي في الكبرى (10/249). وله شواهد. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2648).

[18] أخرجه أحمد (4/193ـ 194)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/210)، والطبراني في الكبير (22/221 ـ 588)، والبيهقي في الكبرى (10/193). وله شواهد، وصححه ابن حبان (482). قال المنذري في الترغيب (3/277)" :رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح ". وبمثله قال الهيثمي في المجمع (8/21). وحسنه الألباني في الصحيحة (2/379) بشواهده.

[19] تهذيب السنن (7/161).

[20] فيض القدير (2/529).

[21] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2553).

[22] مدارج السالكين (2/306).

[23] الديباج (5/501).

 

.