.

  الكبائر والمعاصي : رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:   الصفحة السابقة     الصفحة التالية     لصفحة الرئيسية)

 

رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:

أ- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد:

1- تضعف في القلب تعظيم الربّ جل وعلا ووقاره وهيبته وكبرياءه:

قال ابن القيم رحمه الله: "فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ قدره، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره؛ ويرجو وقاره، ويجلّه من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه"[1].

2- تُذهب حياء القلب وغيرته:

عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت))[2].

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لهذا الحديث تفسيرين:

أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح فإنه يواقعها، وهذا تفسير أبي عبيدة.

والثاني: أن الفعل إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله، وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية[3].

وحقيقة الحياء كما نقل النووي عن العلماء: "خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق"[4].

3- تنكس القلب وتزيغه، فلا يطمئن إلا بها:

إن القلب إذا غرق في أوحال المعاصي والآثام، وركن إليها واطمأن بها؛ فإن القبيح يكون لديه حسناً، والحسن قبيحاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فما وافق هواه فهو الصواب الحلال، وما خالفه فهو الخطأ الحرام... حينئذٍ تضعف عنده إرادة التقوى، بل قد تموت لاستمراره على ما حرّم الله[5].

قال تعالى: عن المنافقين: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة:7].

قال البغوي رحمه الله: "طبع الله على قلوبهم فلا تعي خيراً ولا تفهمه، وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم"[6].

4- توهن القلب وتظلمه:

قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور:40].

قال ابن كثير رحمه الله: "فهذا قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد، الذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.. فالكافر يتقلّب في خمسة من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار"[7].

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاناً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق)[8].

5- حصول خيانة القلب واللسان عند ساعة الاحتضار عن النطق بالشهادة:

قال ابن القيم: "يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناسُ كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك. حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه... آه... لا أستطيع أن أقولها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:

يا رُبّ قائلةٍ يوماً وقد تعبت            كيف الطريق إلى حمام منجاب

ثم قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تاتنا تنتنا... حتى قضى"[9].

ب- أثر الذنوب والمعاصي على المجتمع:

1- أنها سبب هلاك الأمم:

كإغراق قوم نوحٍ عليه السلام، وفرعون وقومه، وإهلاك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بجعل عاليها سافلها. إلى غير ذلك.

قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، وقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأنْهَـٰرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} [الأنعام:6].

إن هذا النصّ في القرآن: {فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} وما يماثله يقرّر حقيقة، ويقرّر سنة، إنه يقرّر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين، وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب، وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتأريخ: فإن هلاك الأجيال، واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم، وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إمّا بقارعة من الله عاجله - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإمّا بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب[10].

2- أنها تزيل النعم بمختلف أنواعها وأشكالها، وتحلّ النقم والمحن والفتن مكانها:

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ...} [الرعد:11].

فالله تعالى لا يسلب نعمةً أنعمها على قومٍ أو مجتمع أو أمةٍ حتى يحدثوا تغيير ما هم عليه من الخير والهداية إلى الشرّ والضلالة. وكذلك لا يغيّر ما حلّ بقومٍ جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمةٍ ورخاء، وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشر والآثام إلى توبةٍ خالصة، وطاعة للملك العلام[11].

3- أنها تسلب نعمة العافية في الأبدان:

جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا))[12].

وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمراً وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وعقد سفيان (تسعين أو مائة) قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثُر الخبث))[13].

قال النووي رحمه الله: "والخبث هو بفتح الخاء والباء، وفسّره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً"[14].

4- أنها سبب في حلول الهزائم في الحرب:

ففي أُحدٍ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة بملازمة الجبل قائلاً: ((لا تبرحوا إن رأيتمونا ظَهرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا))[15] لكنهم خالفوا أمره ونزلوا من على الجبل فحلّت بهم الهزيمة.

قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:166]، أي: بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك: الرماة[16].

5- سبب لوقوع الخسف:

عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القيان والمعازف، وشُربت الخمور))[17].

وكما حصل لذلك الرجل الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((بينما رجلٌ يجرّ إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة))[18].

6- يؤثّر حتى في الدواب:

قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45].

قال القرطبي رحمه الله: "{وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} يعني: من الذنوب {مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} قال ابن مسعود رضي الله عنه: يريد جميع الحيوانات مما دبّ ودرج، قال قتادة: وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام"[19].

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن الحُبارى لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم)[20].

وعكرمة كان يقول: (دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم)[21].


[1] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص 74).

[2] رواه البخاري في الأنبياء، باب حديث الغار (3484).

[3] الجواب الكافي ص (73)، وانظر: فتح الباري (6/523).

[4] رياض الصالحين (ص 307).

[5] المعاصي وآثارها (ص 108-109).

[6] تفسير البغوي (1/64-65).

[7] تفسير القرآن العظيم (3/296).

[8] انظر: الجواب الكافي (ص 58).

[9] الجواب الكافي (ص 97-98).

[10] في ظلال القرآن لسيد قطب (2/1038).

[11] المعاصي وآثارها (ص 141).

[12] رواه ابن ماجه في الفتن باب العقوبات (4019) قال البوصيري: "هذا حديث صالح للعمل به وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3/316) والصحيحة (106).

[13] رواه البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب)) (7095)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (2880).

[14] شرح صحيح مسلم (3/18).

[15] رواه البخاري في المغازي، باب غزوة أحد (4043).

[16] انظر: تفسير القرآن العظيم (1/401).

[17] رواه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف (2212) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/242).

[18] رواه البخاري في اللباس، باب من جرّ ثوبه من الخيلاء (5789)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم التبختر (2088).

[19] الجامع لأحكام القرآن (7/361).

[20] الجامع لأحكام القرآن (7/361)، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص 62).

[21] رواه الطبري في تفسيره (2/55)، وانظر الجواب الكافي (ص 62).

 

.