الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

   الإيمان بالقضاء والقدر: سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:   السابقة      التاليــة    (الصفحة الرئيسة)

 

سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:

أ- التحسين والتقبيح:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:

أحدهما: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدةٍ ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفةً لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح[1]، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث الله إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].

النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.

والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] حصل المقصود، ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك[2]، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلاّ لما هو متّصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعريّة ادّعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب"[3].

ب- وجوب فعل الأصلح:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرسال الرسل مصلحة عامة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته، فـ((إن الله كتب في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي))[4]، فهم يقولون: فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه مصلحة لكل فاعل وتارك، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد، وإن تضمّن شراً لبعضهم، وهكذا سائر ما يقدّره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس، فلله في ذلك حكمة أخرى. ويقولون: وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس، أو هو سبب ضرر كالذنوب، فلا بدّ في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله، وقد غلبت رحمته غضبه"[5].

ج- الاستطاعة:

وقول أهل السنة فيها التفصيل:

1- هناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكّن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصلحة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل قد تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين، ومثال هذه الاستطاعة قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فهذه الاستطاعة قبل الفعل، ولو لم تكن إلاّ مع الفعل لما وجب الحج إلاّ على من حجّ، ولا عصى أحدٌ بترك الحج، ولا كان الحج واجباً على أحد قبل الإحرام، بل قبل فراغه، ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحدٍ من التقوى إلاّ ما فعل فقط؛ إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة[6].

وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عُرف الناس[7].

2- وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَـٰفِرِينَ عَرْضاً v ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}[الكهف:100-101]، فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم، وصعوبته على نفوسهم لا تستطيع إرادته، وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه، وهذه حال من صدّه هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها، وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له.

وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة الكونية، التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل[8].

د-الحكمة والتعليل:

يقول ابن القيم: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير معنىً ومصلحة، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلّ كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى"[9].

فأهل السنة أثبتوا لله حكمة في كل ما خلق، والحكمة تتضمن شيئين:

أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه، يحبها ويرضاها، وهي التي أنكرها المعتزلة.

والثاني: حكمة تعود إلى عباده، وهي نعمة يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذه تكون في المخلوقات والمأمورات[10].

هـ- تكليف ما لا يطاق:

تكليف ما لا يطاق على وجهين:

أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:

1- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.

2- ما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديماً، والقديم محدثاً، ونحو ذلك، فهذا اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وأنه لا يجوز تكليفه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله.

والثاني: ما لا يقدر عليه، لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافاً للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة، لكن: هل يطلق على هذا بأنه تكليف ما لا يطاق؟

جمهور أهل العلم منعه وهو الراجح، وإن كان بعض المنتسبين إلى أهل السنة قد أطلقه في ردّهم على القدريّة[11].

و- معنى الظلم:

قال أهل السنة: إن الله تعالى حكَمٌ عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلاّ في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرّق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين.

وعلى هذا فالظلم الذي حرّمه الله على نفسه وتنزّه عنه فعلاً وإرادة هو ما فسّره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمِّل المرء سيئات غيره، ولا يعذبه بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه:112]، قال المفسّرون: لا يخاف أن يحمَّل عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل، وقيل: لا يخاف ألاّ يجزى بعمله[12].

والله سبحانه وتعالى قادرٌ على الظلم، وإنما استحقّ سبحانه الحمد والثناء لأنه ترك الظلم وهو قادرٌ عليه، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع، وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزَّه الله عنه، وأما إثابة المطيع ففضلٌ منه وإحسان، وإن كان حقاً واجباً بحكم وعده باتفاق المسلمين، وبما كتبه على نفسه من الرحمة، وبموجب أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى[13].


[1] وهم المعتزلة ومن وافقهم.

[2] رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع (3464)، ومسلم في الزهد والرقائق (2964).

[3] مجموع الفتاوى (8/434-436) باختصار.

[4] الحديث رواه البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء (7422).

[5] منهاج السنة لابن تيمية (1/462-463) باختصار.

[6] انظر: مجموع الفتاوى (8/372).

[7] انظر: مجموع الفتاوى (8/129، 290، 373).

[8] انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 268-270)، وانظر أيضاً: شرح الطحاوية لابن أبي العزّ (ص 637-639)، ودرء التعارض (1/61).

[9] شفاء العليل (2/87).

[10] تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن فوزي (2/1069)، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (8/35-36).

[11] القضاء والقدر للمحمود (ص 277-278).

[12] انظر: زاد المسير لابن الجوزي (5/224).

[13] القضاء والقدر للمحمود (ص 285-286)، وانظر: منهاج السنة (2/236) ومفتاح دار السعادة (2/107)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 659-660).

 

.