الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

   الإيمان بالقضاء والقدر: ثانياً: إثبات القضاء والقدر:            الصفحة السابقة          الصفحة التالية        (الصفحة الرئيسة)

 

ثانياً: إثبات القضاء والقدر:

أ- الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر:

قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].

قال الشوكاني: "إن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبساً بقدرٍ قدّره، وقضاءٍ قضاه سبق في علمه، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه"[1].

وقال تعالى: {سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب:38].

قال الحافظ ابن كثير: "أي: وكان أمره الذي يقدّره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه، ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن"[2].

وقال صديق حسن خان: "أي: قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل، وليلٍ أليل، وروض أريض في قصد التأكيد"[3].

ومن السنة حديث جبريل المشهور وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره))[4].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه))[5].

قال الحافظ ابن حجر: "الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر:21]"[6].

ب- النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد:

1- أعمال العباد جفت بها الأقلام وجرت بها المقادير:

عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا، كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؛ أفيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير))، قال: ففيم العمل؟ فقال: ((اعملوا فكلٌ ميسَّرٌ))، وفي رواية: ((فكلٌ ميسرٌ لما خلق له))[7].

2- علم الله بأهل الجنة وأهل النار:

عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصره فنكّس، فجعل ينكت بمخضرته، ثم قال: ((ما منكم من أحدٍ، ما من نفسٍ منفوسةٍ إلاّ كُتب مكانها من الجنة والنار، وإلاّ كُتب شقيّة أو سعيدة))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: ((أما أهل السعادة فيُيسّرون لعمل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ E وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ}[8].

3- استخراج ذريّة آدم من ظهره بعد خلقه، وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة، وأهل النار:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني: عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذريّة ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبلا قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173]))[9].

وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الذّر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريّة سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي))[10].

4- كتابة أجل الإنسان وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وهو جنين في رحم أمّه:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيٌ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار))[11].

ج- ومراتب القدر:

الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميعَ أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، ((فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))[12]، فما أصاب الإنسانَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِى كِتَـٰبٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].

وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدريّة قديماً، ومنكره اليوم قليل.

وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.

فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلاّ الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة؛ والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [التكوير:28-29][13].

فهي إذاً أربع مراتبٌ وهي إجمالاً:

الأولى: العلم، أي: أن الله علم ما الخلق عاملون بعمله القديم.

الثانية: الكتابة، فالله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.

الثالثة: المشيئة، أي: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.

الرابعة: الخلق والتكوين، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد كما دلت على ذلك النصوص[14].

الأدلة على هذه المراتب:

أولاً: العلم:

قال تعالى: {هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ} [الحشر:22].

قال النسفي: "أي: السرّ والعلانية في الدنيا والآخرة، أو المعدوم والموجود"[15].

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن أولاد المشركين قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين))[16].

وبوّب البخاري في كتاب القدر: "باب جفّ القلم على علم الله".

قال الحافظ: ابن حجر معلقاً: "أي: على حكمه لأن معلومه لا بدّ أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه"[17].

ثانياً: الكتابة:

قال تعالى: {لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].

قال العلامة ابن سعدي: "{لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ} به القضاء والقدر، أنه أحلّ لكم الغنائم، وأن الله رفع عنكم ـ أيتها الأمة ـ العذاب، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}"[18].

والدليل من السنة على هذه المرتبة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، قال: ((وكان عرشه على الماء))[19].

قال النووي: "قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله ((وعرشه على الماء)) أي: قبل خلقه السماوات والأرض"[20].

ثالثاً: المشيئة:

ودليلها من القرآن قوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [التكوير:28، 29].

قال القرطبي: "فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه، وقال الحسن: والله، ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها، وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ} [الأنعام:111]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ} [يونس:100]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص:56]، والآي في هذا كثيرة، وكذلك الأخبار وأن الله سبحانه هدى بالإسلام وأضل بالكفر كما تقدم في غير موضع"[21].

قال ابن كثير: "أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}"[22].

ومن السنة ما رواه أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له))[23].

قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((لا مستكره له)) أي: لأن التعليق يوهم إمكان إعطائه على غير المشيئة، وليس بعد المشيئة إلا الإكراه، والله لا مكره له"[24].

هذا وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد "باب: في المشيئة والإرادة"، قال ابن بطال: "معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى"[25].

رابعاً: الخلق:

قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96].

قال الحافظ ابن كثير: "يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، فيكون تقدير الكلام: خلقكم وعملَكم، ويحتمل أن تكون بمعنى (الذي) تقديره: والله خلقكم والذي تعلمونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر"[26].

ومن السنة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنة؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل: لا حول ولا وقوة إلا بالله))[27].

قال النووي في بيان سبب كون هذه الكلمة كنزا من كنوز الجنة: "قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وإن العبد لا يملك شيئاً من الأمر"[28].

د- حدود نظر العقل في القدر:

ينبغي للعقل أن يستنير في هذا الباب بالوحي وإلا ضلّ ضلالا مبينا.

قال أبو المظفّر السمعاني: "سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌ من أسرار الله تعالى اختصّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرّب"[29].

وقال الطحاوي: "وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمّق في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ} [الأنبياء:23]"[30].

ويقول الإمام أحمد: "من السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها. لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفي ذلك وأحكم له. فعليه بالإيمان به والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر"[31].

وهذا الذي قرّره أهل العلم في القدر يضع لنا عدة قواعد في غاية الأهمية:

الأولى: وجوب الإيمان بالقدر.

الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس؛ فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا، فمنهم من كذّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يستلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبَّب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة.

الثالثة: ترك التعمّق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلاّ بصعوبة كبيرة.

قد يُقال: أليس هذا النهج حجرًا على العقل الإنساني؟

والجواب: إن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدَّد قواه في غير المجال الذي يحسن التفكير فيه.

إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين.

ولذا فقد نصّ جمعٌ من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر كما تقدم النقل عن الإمام أحمد[32].


[1] فتح القدير (5/129).

[2] تفسير ابن كثير (3/783).

[3] فتح البيان في مقاصد القرآن (7/375).

[4] رواه مسلم في الإيمان (8) من حديث عمر رضي الله عنه.

[5] رواه الترمذي في القدر، باب: ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشرّه (2144) وقال: "هذا حديث غريب لا تعرفه إلاّ من حديث عبد الله بن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث"، ولكن الحديث له شواهد تؤيده، وصححه الألباني كما في صحيح الترمذي (1143) والسلسلة الصحيحة (2439).

[6] فتح الباري (11/478).

[7] رواه مسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2649).

[8] رواه البخاري في الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر (1362)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2647).

[9] رواه أحمد (3451)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/43).

[10] رواه أحمد (26942)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/42-43).

[11] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3332)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (2643).

[12] رواه أبو داود في باب في القدر (4700)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: سورة نوح والقلم (3319)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/123) والصحيحة (133).

[13] مجموع الفتاوى (3/148-150) باختصار.

[14] القضاء والقدر للمحمود (ص40)، وانظر: شفاء العليل لابن القيم (1/91)، ومعارج القبول للحكمي (3/920-940).

[15] تفسير النسفي (4/244).

[16] رواه البخاري في القدر، باب: الله أعلم بما كانوا عاملين (6597)، ومسلم في القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (2660).

[17] فتح الباري (11/500).

[18] تيسير الكريم الرحمن (ص 326). تحقيق عبد الرحمن اللويحق.

[19] رواه مسلم في القدر، باب: حجاج آدم موسى (2653).

[20] شرح صحيح مسلم (16/203).

[21] الجامع لأحكام القرآن (19/243).

[22] تفسير القرآن العظيم (4/481).

[23] رواه البخاري في التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة (7464).

[24] فتح الباري (13/459).

[25] شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/477).

[26] تفسير ابن كثير (4/15).

[27] رواه البخاري في القدر، باب: لا حول ولا قوة إلا بالله (6610)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704).

[28] شرح صحيح مسلم (17/26).

[29] انظر: فتح الباري (11/486).

[30] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 276).

[31] انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/241-242).

[32] القضاء والقدر للدكتور عمر الأشقر (ص48-49) باختصار.

 

.