الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

  الإيمان بالقضاء والقدر: أولاً: التعريف:                         الصفحة السابقة                 الصفحة التالية    (الصفحة الرئيسة)

 

أولاً: التعريف:

أ- تعريف القضاء والقدر لغة وشرعا وبيان العلاقة بين المعنيين:

تعريف القضاء والقدر:

القضاء لغة: الإحكام والإتقان وإتمام الأمر.

قال ابن فارس: "القاف والضاد والحرف المعتلّ أصلٌ صحيح يدلّ على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته"[1].

وقال ابن الأثير: "القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها انقطاع الشيء وتمامه"[2].

ويأتي أيضاً بمعنى القدر.

وقد ورد لفظ القضاء في القرآن كثيراً فمن المعاني التي ورد بها:

1- معنى الأمر[3]، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ...} [الإسراء:23].

قال قتادة: "أي: أمر ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه، فهذا قضاء الله العاجل"[4].

2- معنى الإنهاء[5]، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأمْرَ} [الحجر:66] أي: تقدمنا وأنهينا[6]، قال الجوهري: "أي: أنهيناه وأبلغناه"[7].

3- معنى الفراغ[8]، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوٰتٍ فِى يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].

قال الطبري: "فرغ من خلقهن سبع سموات في يومين"[9].

6،5،4- ويأتي أيضاً بمعنى الأداء[10]، والإعلام[11]، والموت[12]، وغيرها.

القدر لغة: يطلق على الحكم والقضاء والطاقة.

قال ابن فارس: "القاف والدال والراء، أصلٌ صحيح يدلّ على مبلغ الشيء كنهَه ونهايته"[13].

ويأتي على معان:

1- معنى الطاقة[14].

2- التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، قال الراغب الأصفهاني: "أي: ضيّق عليه، وقدرت عليه الشيء ضيقته، كأنما جعلته بقدرٍ"[15].

ويأتي لمعاني أُخر.

القضاء والقدر شرعاً:

قال الشيخ محمد خليل الهرّاس: "والمراد به في لسان الشرع: أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح قبل إحداثها"[16].

وقيل: "هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمُه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابتُه سبحانه لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدّرها، وخلقُه لها"[17].

العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي:

يتبين مما سبق أن بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكل من القضاء والقدر ترابطًا قويًّا، فمعاني القضاء في اللغة ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، ومن معانيه: الأمر والحكم والإعلام، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير والقدرة، والله سبحانه وتعالى قدّر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقضيّة ومقدّرة فتقع حسب أقدارها كما أمر الله تعالى أن تقع، وهذا كله لا يخرج عن المعاني اللغوية للكلمتين[18].

ب- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟

انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين:

الفريق الأول: قالوا: إنه لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، ولذلك إذا أطلق القضاء وحده فسّر بالقدر، وكذلك القدر، فلا فرق بينهما في اللغة، كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع[19].

الفريق الثاني: قالوا بالفرق بينهما، لكنهم اختلفوا في التمييز بينهما على أقوال:

القول الأول: قول أبي حامد الغزالي أن هناك بالنسبة لتدبير الله وخلقه ثلاثة أمور:

1- الحكم: وهو التدبير الأول الكلّي والأمر الأزلي.

2- القضاء: وهو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة.

3- القدر: وهو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص"[20].

القول الثاني: ما نقله الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء أنهم قالوا: القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله[21].

القول الثالث: ما نقله الراغبُ الأصفهاني: أن القدر بمنزلة المعِدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له[22].

القول الرابع: قول الأشعرية: إن القضاء إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه وجودها الحادث، كإرادته تعالى الأزلية بخلق الإنسان في الأرض. والقدر هو إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحدّدة بالقضاء في ذواتها وصفاتها وأفعالها وأطوالها وأزمنتها وأمكنتها وأسبابها، كإيجاد الله الإنسان فعلاً على وجه الأرض طبق ما سبق في قضائه سبحانه[23].

القول الخامس: قول الماتريدّية: إن القضاء راجع إلى التكوين كخلق الله الإنسان على ما هو عليه طبق الإرادة الأزلية. والقدر هو التقدير، وهو جعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير، كإرادته تعالى في الأزل إيجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة المقادير[24].

خلاصة الأقوال:

1- الذين فرّقوا بينهما ليس لهم دليلٌ واضح من الكتاب والسنة، يفصل في القضية.

2- عند إطلاق أحدهما يشمل الآخر، وهذا يوحي بأنه لا فرق بينهما في الشرع؛ ولذا فالراجح أنه لا فرق بينهما.

3- ولا فائدة من هذا الخلاف؛ لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر، وعند ذكرهما معاً، فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل عليه الآخر. والله أعلم[25].


[1] مقاييس اللغة (5/99).

[2] النهاية في غريب الحديث (4/78).

[3] انظر: لسان العرب (15/186) مادة: قضى.

[4] تفسير الطبري (17/413).

[5] انظر: الصحاح للجوهري (6/2463)، ولسان العرب (15/187) مادة: قضى.

[6] انظر: تفسير ابن كثير (2/575).

[7] الصحاح (6/2464).

[8] المصدر السابق (6/2464).

[9] تفسير الطبري (21/440).

[10] انظر: الصحاح (6/2464).

[11] لسان العرب (15/187).

[12] الصحاح (6/2463)، ولسان العرب (15/187).

[13] مقاييس اللغة (5/62).

[14] التكملة والذيل والصلة للصغاني (3/159-160).

[15] مفردات القرآن (ص 659).

[16] شرح العقيدة الواسطية (ص 65).

[17] القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (ص 39-40).

[18] انظر: القضاء والقدر للدكتور المحمود (ص 39).

[19] القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود (ص 40-41).

[20] الأربعين في أصول الدين للغزالي (ص 24)، وانظر: الدين الخالص لصديق حسن خان (3/154).

[21] فتح الباري (11/486).

[22] مفردات القرآن (ص 675-676). وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني (9/343).

[23] العقيدة الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن حبنكة (ص 626) باختصار.

[24] المصدر السابق. وانظر: الماتريدية دراسةً وتقويماً لأحمد الحربي (ص 435-437).

[25] القضاء والقدر للمحمود (ص 44).

 

.