.

  الاعتبار بمصارع الأمم: ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟:  الصفحة السابقة   الصفحة التالية   الصفحة الرئيسية

 

ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟

ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:

أولهما: عذاب الاسئئصال، وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود.

والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.

وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر:45]. ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.

قال الحافظ المقدسي: "وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظم قوى وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته" [مفتاح دار السعادة 1/255].

ويبين شيخ الإسلام أن الاستئصال إنما رفع برسالة موسى عليه السلام فيقول: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذاباً عاجلاً، يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عاداً وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون،.... إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأولَىٰ} [القصص:43]. بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية" [الجواب الصحيح 6/442].

 ويقول رحمه الله مبيناً الصورة الجديدة التي أرادها الله لردع أعدائه، ألا وهي الجهاد لهؤلاء الكفار ومراغمتهم حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله: " المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة" [الجواب الصحيح 2/251].

ولما بعث رسول الله كان رحمة للبشرية جمعاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ} [الأنبياء:107]. قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" [القرطبي 11/350]. ومقصوده الخسف الشامل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع بعضه فيما بينه وبين الساعة-كما سيأتي في حينه-.

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه دعا الله أن لا يهلك أمته بسنة عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة... وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة)) [رواه الطبري في تفسيره 7/226، قال ابن حجر: إسناده صحيح. فتح الباري 8/293].

لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.

وأما حديث جابر لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: ((أعوذ بوجهك)) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) [البخاري ح4628]. ففيه قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" [فتح الباري 8/293]. أي وقوع العذاب لبعض الأمة دون بعض.

قال شيخ الإسلام: "وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمداً أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب" [الجواب الصحيح 6/443].

كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لأمته، حين سأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فقال: ((وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها وعشرون عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)) [مسلم ح2889].

قال شيخ الإسلام: "هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة و لا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح، فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، و لولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم" [مجموع الفتاوى 14/150].

 

.