.

  الاعتبار بمصارع الأمم : ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية:    الصفحة السابقة    الصفحة التالية   الصفحة الرئيسية

 

ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها:

يقص القرآن علينا أمة الإسلام مصارع الأمم الغابرة، لنقرأ سيرهم فنحذر ما أحل بهم العذاب، ولكي نرى ما ينتظر الأمم التي تقع في أمثال هذه المعاصي والآثام، وجاء هذا التحذير في كثير من آيات القرآن الكريم، ومنه:

1- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} [الإسراء:17].

قال القرطبي: "ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم" [تفسير القرطبي 6/391].

قال الطبري: "وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قروناً كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به وتكذيب رسله على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه، فيعذب قوماً بما لا يعذب به آخرين أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين" [تفسير الطبري 15/57].

2- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَال} [الروم:41]، وقال تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـٰتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـٰلِمِينَ} [الأنفال:53، 54].

قال الشوكاني: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [فتح القدير 2/318].

3- {قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} [الروم:42].

قال ابن تيمية: "وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان" [العقود الدرية 1/137].

4- {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].

قال الطبري: "فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه" [تفسير الطبري 4/209].

وذكرت الآيات أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبهم وآثامهم، فالله حكم عدل لا يظلم أحداً، ومن هذه الآيات:

1- {وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم يقول فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها" [الطبري 25/32].

2- {أَلَم يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرٰهِيمَ وِأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [التوبة:70].

3- {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [يونس:44].

قال ابن مسعود: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]" [تفسير القرطبي10/120].

والعذاب والعقوبة التي أوعد الله بها الأمم لها موعد صدق يأتيها وإن طال على سبيل الاستدراج أو الإمهال، إذ هو سنة كونية يعذب الله بها الأمم أمة تلو أمة، وهذه السنن لا تحابي أمة، ولا تتجاوز مستحقاً للعذاب، وإن تأخر ذلك إلى حين أجله، وقد قال الله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون" [تفسير القرطبي10/120].

 وقال: {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [ن:44-45]. قال القرطبي: "واعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله إمهال العصاة مدة" [تفسير القرطبي 9/376].

فالعقوبة الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ} [آل عمران:137]. قال القرطبي: "المعنى قد خلت من قبلكم سنن يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود والعاقبة آخر الأمر وهذا في يوم أحد يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله يعني بنصره النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين" [تفسير القرطبي 4/216].

وقال: {ٱسْتِكْبَاراً فِى ٱلأرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيّىء وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "سنة الله في خلقه يرفع من تخشع، ويضع من ترفع" [تفسير القرطبي 9/42].

 

.