موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  السفر حقيقته وحكمه: ثالثاً:  متى يترخص المسافر برخص السفر:       الصفحة السابقة                 الصفحة التالية     

 

ثالثا: متى يترخص المسافر برخص السفر؟

لا يترخص المسافر برخص السفر إلا إذا تحقق فيه الشروط التالية:

1- القصد:

وهو محل اتفاق بين الفقهاء، فلا قصر ولا فطر لهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لتائهٍ ضال عن الطريق، ولا لصياد يتبع الطريد.

2- مفارقة محل الإقامة:

يشترط مفارقة بيوت المصر، فلا يصير مسافراً ولا يحل له القصر قبل المفارقة.

قال سحنون: "وقال الإمام مالك في الرجل يريد سفراً أنه يُتم الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية أو قربها"([1]).

قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها"([2]).

مسألة: اختلف الفقهاء في فطر المسافر قبل الشروع في السفر:

فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المسافر الذي عقد العزم على السفر وتأهب أهبته ليس له أن يفطر في نهار رمضان قبل أن يفارق البنيان.

وذهب أحمد في الرواية الصحيحة عنه إلى أن للمسافر الذي عقد العزم وتأهب للسفر أهبتَه أن يفطر قبل أن يفارق البنيان.

واستدل على ذلك بالحديث الذي أخرجه في مسنده عن عبيد بن حنين قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع، ثم قرّب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟! فقال أبو بُصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

والحديث صحيح صححه الألباني وغيره([3]).

وفي الباب حديث آخر أخرجه الترمذي عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة([4]).

لكن في سنده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف([5]).

قال الترمذي: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحاق بن إبراهيم الحنظلي".

قال ابن العربي: "ولم يقل به إلا أحمد. أما علماؤنا فمنعوا منه، لكن اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة، فقال مالك: لا، وقال أشهب: هو متأوّل، وقال غيرهما: يكفّر".

قال ابن العربي: "ونحبُّ أن لا يكفر لصحة الحديث، ولقول أحمد"([6]).

وقد خالفت الحنابلة مذهب إمامهم، قال ابن قدامة: "لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، قال: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين، ولذلك لا يقصر الصلاة"([7]).

والذي يترجح ـ والعلم عند الله ـ هو قول الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، لصحة الحديث، وقوة دلالته التي لا تحتمل التأويل، كما قال الشوكاني: "والحق أن قول الصحابي: (من السنة) ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرّح هذان الصحابيان بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة"([8]).

لكن الأحوط للمسافر أن لا يترخص بالإفطار حتى يفارق بيوت بلدته، لأن صيامه والحالة هذه صحيح باتفاق، وإفطاره مختلف فيه، فمنعه قوم وأوجب فيه بعضهم الكفارة، ولأنه لا يندب في حقه الفطر ما دام لم يغادر البلد، ثم هو حتى لو غادر فليس المستحب في حقه الإفطار مطلقاً، بل الأفضل في حقه هو الأيسر له ما بين الإفطار أو الصيام على رأي المحققين والله أعلم.

3- أن يكون سفراً مباحاً:

اتفق الفقهاء على أن من ارتكب معصية في سفره المباح له أن يترخص برخص السفر؛ لأنه لم يقصد السفر للمعصية، ولأن سبب الترخص ـ وهو السفر ـ مباح قبل المعصية وبعدها.

ولكنهم اختلفوا فيمن أنشأ سفره للمعصية أو سافر سفراً مباحاً، ثم قصد سفراً محرماً، هل يترخص برخص السفر أم لا؟

القول الأول: أن عليه أن يتم، وليس له أن يقصر ما دام في سفره. وهو قول الشافعي وأحمد

قال الشافعي: "وذلك في مثل أن يخرج باغياً على مسلم أو معاهد، أو يقطع طريقاً، أو لما في هذا المعنى، قال: ولا يمسح على الخفين، ولا يجمع الصلاة، ولا يصلي نافلة إلى غير القبلة مسافراً في معصيته"([9]).

قال ابن قدامة: "نصّ عليه أحمد"([10]).

والدليل قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}.

قال ابن عباس: ({غير باغٍ} على المسلمين، مفارق لجماعتهم، يخيف السبيل، {ولا عادٍ} عليهم)([11]).

وقال مجاهد: (غير قاطع سبيل، ولا مفارقٍ جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة) ([12]).

القول الثاني: ذهب الثوري والأوزاعي وحكي عن أبي حنيفة الترخص في السفر في حلالٍ كان، أو في حرام([13]).

لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ﴾ [النساء:100].

وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} [المائدة:6].

ولقول عائشة رضي الله عنها: (إن الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر)([14]).

والذي يترجح ـ والله أعلم ـ مذهب الأحناف؛ لعموم إطلاقات النصوص، ولا مقيّد لهذه الإطلاقات، ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فهو صالح لأن تتعلق به الرخصة.

أما الآية فالصحيح في تفسيرها أن المراد بالباغي والعادي ما قاله قتادة: "{غير باغٍ} في أكله، {ولا عادٍ} أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة"([15]).

والواجب على الباغي على الناس وقاطع الطريق وغيره التوبة، ويحرم عليه أن يقتل نفسه، فيزداد بذلك إثماً إلى آثامه، بل يترخص.


 


([1]) المدونة (1/118).

([2]) المغني (3/112).

([3]) انظر رسالته: تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره.

([4]) الترمذي (799).

([5]) انظر: تهذيب التهذيب (5/174-176).

([6]) انظر: نيل الأوطار (4/229).

([7]) المغني (4/347).

([8]) نيل الأوطار (3/229).

([9]) الأم (1/184-185).

([10]) المغني (3/115).

([11]) انظر: المغني (2/115).

([12]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (2/76).

([13]) انظر: الأوسط لابن المنذر (4/345-346)، والمغني (3/115).

([14]) البخاري (1090)، ومسلم (685).

([15]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (2/87).

 

.