موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  السفر حقيقته وحكمه: ثانياً: حقيقة السفر الشرعية:                   الصفحة السابقة                 الصفحة التالية     

 

ثانيا: حقيقة السفر الشرعية:

اختلف أهل العلم في الحد الذي يصير به البارز عن بلده مسافراً يترخص برخص السفر على أقوال:

القول الأول: قول من قال بتحديده بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها، وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال المرغيناني: "السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن سير الإبل ومشي الأقدام، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن))"([1]).

القول الثاني: قول من حدده بأربعة بُرَد، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج الطبري عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة ليلتين([2]).

وأخرج الشافعي عن ابن عباس قال: (تقصر الصلاة إلى عسفان، وإلى الطائف، وإلى جدة، وهذه الحلَّة، من مكة على أربعة بُرد، ونحو ذلك)([3]). وإليه ذهبت المالكية والشافعية والحنابلة.

قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا يجوز القصر إلا في مسيرة يومين، وهو أربعة بُرد، كل بريد: أربعة فراسخ، فذلك ستة عشر فرسخاً، لما روي أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرد... قال مالك: بين مكة والطائف، وجدة وعسفان أربعة بُرد... قال الشافعي:... وأحبّ أن لا يقصر في أقلّ من ثلاثة أيام".

قال أبو إسحاق: "وإنّما استحب ذلك ليخرج من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة لا يُبيح القصر إلا في ثلاثة أيام".

قال الأثرم: "قيل لأبي عبد الله: في كم تُقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد. قيل له: مسيرة يومٍ تامٍ؟ قال: لا، أربعة برد، ستة عشر فرسخاً، ومسيرة يومين"([4]).

القول الثالث: قول من لم يحدد ذلك بمسافة، وأرجع ذلك إلى العُرف، وما يعتبر فيه من التزود لذلك، والبروز للصحراء، وهو قول جمع من المحققين كابن قدامة وابن تيمية، مستندين على عمل عدد من الصحابة.

فقد أخرج ابن أبي شيبة عن النزّال أن علياً خرج إلى النميلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيّكم([5]).

وكان الأوزاعيُّ يقول: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ([6]).

وعن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السّمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً، أو ثمانية عشر ميلاً، فصلّى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين، وقال: إنما أفعل كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل([7]).

قال ابن قدامة: "التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يُرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجّة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه"([8]).

قال ابن تيمية: "ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفراً، مثل أن يتزوّد له، ويبرز للصحراء"([9]).

وقال: "ولا قدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافراً، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافراً؛ فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً"([10]).

وبيَّن ذلك بإيضاح في قوله: "وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافرا لقطعه مسافة محدودة، ولا لقطعه أياما محدودة، بل كان مسافرا لجنس العمل الذي هو سفر، وقد يكون مسافرا من مسافة قريبة، ولا يكون مسافرا من أبعد منها، مثل أن يركب فرسًا سابقا ويسير مسافةَ بريد ثم يرجع من ساعته إلى بلده، فهذا ليس مسافرا. وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة، ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد كان مسافرا، كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة، ولو ركب رجل فرسا سابقا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرا"([11]).

وهذا القول هو الذي رجّحه واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله([12]).

ومما يدل على رُجحانه ما جاء عن يحيى بن زيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين([13]).


 


([1]) الهداية (2/27).

([2]) تهذيب الآثار (3047).

([3]) مسند الشافعي (183).

([4]) المغني (3/106).

([5]) المصنّف (2/443).

([6]) الأوسط لابن المنذر (4/351).

([7]) مسلم (692).

([8]) المغني (3/109).

([9]) المجموع (24/15).

([10]) الفتاوى (24/135).

([11]) المجموع (24/119).

([12]) الشرح الممتع (4/497).

([13]) مسلم (691).

 

.