الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

  العبودية: ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:                            الصفحة السابقة                     (الصفحة الرئيسة)

 

ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:

أ- المشتغلون بالعبودية العامة عن العبودية الخاصة:

المشركون وكثير من أهل التصوف وأهل الجبر يشهدون الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية، فيعارضون الشرع بالقدر، قال شيخ الإسلام: "وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: {رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79]... وأمثال هذا من الخطاب الذي يقرّ فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ} [المؤمنون:106]... فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أُمر به من الحقيقة الدينية، التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسله، كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواصّ أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أهل الكفر والإلحاد... وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها، ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتّبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان"[1].

وقال: "كثير من الرجال غلطوا فيه، فإنهم قد يشهدون ما يقدّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقاً وعبادة، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء} [الأنعام:148]"[2].

ب- الذين يسوون الله بكلّ موجود:

وهم أهل المقالة الكفرية وحدة الوجود، قال شيخ الإسلام: "بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سوّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات.

وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد، لا بمعنى أنهم مُعبّدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم... ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم"[3].

ج- المدعون للمحبة من غير خوف ولا رجاء:

قال ابن تيمية رحمه الله: "وُجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوة التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، ولا يصلح للأنبياء. وهذا بابٌ وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بيّنها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.

وإذا ضعف العقل، وقلّ العلم بالدين، وفي النفس محبةٌ طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيهٌ بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]"[4].


[1] العبودية (ص42-46).

[2] العبودية (ص50-51).

[3] العبودية (ص61-62).

[4] العبودية (ص162-163).

 

.