الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

  الولاء والبراء: ثانياً: الفرق بين المراقبة والإحسان:      الصفحة السابقة                            (الصفحة الرئيسة)

 

الفصل الثاني: تنبيهات على بعض ما داخل الذكر من بدع ومخالفات[1]:

عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))[2].

قال القاضي عياض: "أذِن الله في دعائه، وعلَّم الدعاءَ في كتابه لخليقته، وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدعاءَ لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم. وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام فقيَّض لهم قومَ سوء، يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشتغلوا من الحديث إلا بالصحيح"[3].

وهذه المحدثات مصداق ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور))[4]، وهي تزداد على حين فترة من العلماء، وجهل الدهماء، ونفوذ أهل الأهواء. والإحداث في هذا الباب له أربع مفاسد: هجر المشروع، والاستدراك على الشرع، واستحباب ما لم يشرع، وإيهام العامة بمشروعيته.

وقد داخل الذكرَ والدعاء كثيرٌ من الغلط والمخالفات والبدع والمخترعات.

وهذه الأذكار المبتدعة منها ما لا أصل له في الرواية، ومنها ما ورد في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا تنجبر. وهي تتفاوت في الفساد والإثم بحسب ما اشتملت عليه من شرك أو بدعة أو خطأ وغلط. وتقع هذه المخالفات في الشروط والآداب والجنس والمقدار والكيفية في الهيئة والأداء والأزمان والأماكن والأحوال.

المبحث الأول: بعض البدع الإضافية في ألفاظ الذكر ومعانيه ومقداره:

1- استبدال لفظ وارد بآخر غير وارد:

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن متَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلم به)). قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت: ((اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت)) قلت: ورسولك، قال: ((لا، ونبيك الذي أرسلت))[5].

قال الحافظ ابن حجر: "وأولى ما قيل في الحكمة في ردِّه صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبي أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها"[6].

2- الذكر بالاسم المفرد (الله) والضمير المفرد (هو):

قال شيخ الإسلام: "قد دلَّ الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة على جنس المشروع المستحب في ذكر الله ودعائه كسائر العبادات... أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل: لا إله إلا الله، ومثل: الله أكبر، ومثل: سبحان الله والحمد لله... فأما الاسم المفرد مُظهَرًا مثل: الله الله، أو مضمَرًا مثل: هو هو، فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين، وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروى عن الشبلي أنه كان يقول: الله الله، فقيل له: لم لا تقول: لا إله إلا الله؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات. وهذه من زلات الشبلي التي تُغفر له لصدق إيمانه وقوة وجده وغلبة الحال عليه... وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها...

وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة وذكرَ الكلمة التامة للعامة. وربما قال بعضهم: (لا إله إلا الله) للمؤمنين، و(الله) للعارفين، و(هو) للمحققين. وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على (الله الله الله)، أو على (هو) أو (يا هو) أو (لا هو إلا هو). وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيمَ ذلك، واستدلَّ عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب".

ثم قال: "وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية، فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانا ولا كفرا، ولا هدى وضلالا، ولا علما ولا جهلا، وقد يذكر الذاكر اسم نبي من الأنبياء، أو فرعون من الفراعنة، أو صنم من الأصنام، ولا يتعلق بمجرد اسمه حكم إلا أن يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات، أو حب أو بغض، وقد يذكر الموجود والمعدوم".

ثم قال: "فثبت بما ذكرناه أن الاسم المجرد ليس مستحبا، فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة. وأبعد من ذلك ذكر الاسم المضمر وهو: (هو)، فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم، فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم.

ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم، فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان ومقوية للإيمان"[7].

3- الأوراد والأحزاب المبتدعة[8]:

من البدع الإضافية ما يسمى بالأوراد والأحزاب الطرقية، وهي من البدع الإضافية لأن أصل الذكر مشروع، وإنما السبب في كونه بدعة ما قارنه من الكيفية التي لم تكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأدعية والأذكار المبتدعة هي من هذا الباب.

قال شيخ الإسلام: "والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغي لنا أن نتبع ما شرع وسن، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، والذي يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره ـ وإن كان من أحزاب بعض المشايخ ـ الأحسن له أن لا يفوته الأكمل الأفضل، وهي الأدعية النبوية، فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك، وإن قالها بعض الشيوخ فكيف وقد يكون في عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك. ومن أشد الناس عيبا من يتخذ حزبا ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزبا لبعض المشايخ، ويدع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيد بني آدم وإمام الخلق وحجة الله على عباده، والله أعلم"[9].

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على الاتباع، وليس لأحد أن يسنَّ منها غير المسنون، ويجعله عادة راتبة يواظب الناس عليها، بل هذا ابتداع دين لم يأذن به الله، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله سنة"[10].

ولفظ (الحزب) أو (الورد) على وزن (فِعل) بمعنى: ما يجعله الإنسان على نفسه من القرآن أو الصلاة، ولكن المتصوِّفة أصحاب الطرق أطلقوهما على ما يجعله الإنسان على نفسه من الأدعية والأذكار، واشتهرت بذلك مصنفاتهم في هذا الباب فيما يخترعونه ويرتبونه من الأدعية والأذكار، وامتد ذلك إلى مصطلحات أخر، وإلى صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم مخترعة، فمن هذه المصطلحات والألقاب المنسوبة: البردة، وتوسلات الصاوي، وتوسلات الخلوتي، وتوسلات النقشبندي، والحزب الكبير، وحزب الصغير، وحزب الأسرار، ودعاء عاشوراء، ودلائل الخيرات.

وهكذا لدى كل أصحاب طريقة من الأوراد المخترعة، وهي على أقسام: فمنها للعامة وهي لأهل الإسلام والسنة، ومنها للخاصة وهي للطرقية الصوفية، ومنها لخاصة الخاصة وهي حزب الملاحدة المنتسبين للإسلام ظلما.

فالقسم الثاني المسمى لدى الطرقية باسم: (حزب الخاصة) إنما هو أوراد وأحزاب بدعية محرمة، لا تجوز شرعا، لما فيها من هجر المشروع والاستدراك على الشرع واستحباب ما لم يشرع وإيهام العامة بمشروعيته واشتمالها على أدعية شركية، وأذكار بدعية.

4- بدع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

الصلوات المبتدعة لدى الطرقية مثل: صلاة ابن مشيش وصلاة الرفاعي وصلاة الفاتح وغيرها. وصلاة واحدة من هذه الصلوات تعدل عندهم قراءة القرآن كذا وكذا ألف مرة، فكيف لا يهجر القرآن بعد ذلك؟!!

المبحث الثاني: بدع في هيئة الذكر وفي كيفية الأداء:

1- المواظبة على الاجتماع للذكر والذكر الجماعي:

قال شيخ الإسلام: "الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يُتَّخذ ذلك عادة راتبة ـ كالاجتماعات المشروعة ـ ولا اقترن به بدعة منكرة"[11].

وقال الشيخ بكر أبو زيد في الذكر الجماعي: "... إن هذه هيئة داخلت الذكر والدعاء في عامة مواطن الذكر والدعاء في العبادات المطلقة والمقيدة والأوراد الراتبة وفي أعقاب الصلوات المكتوبات وفي مشاعر الحج وشعائره كالتلبية وفي التكبير أيام العيدين، وغير ذلك.

وليعلم هنا أن قاعدة هذه الهيئة التي يرد إليها حكمها هي: أن الذكر الجماعي بصوت واحد سرا أو جهرا، لترديد ذكر معين وارد أو غير وارد، سواء كان من الكل أو يتلقنونه من أحدهم، مع رفع الأيدي أو بلا رفع لها، كل هذا وصف يحتاج إلى أصل شرعي يدل عليه من كتاب أو سنة؛ لأنه داخل في عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الإحداث والاختراع؛ لهذا نظرنا في الأدلة لذلك من الكتاب والسنة فلم نجد دليلا يدل على هذه الهيئة المضافة، فتحقق أنه لا أصل لها في الشرع المطهَّر، وما لا أصل له في الشرع فهو بدعة؛ إذاً فيكون الذكر والدعاء الجماعي بدعة، يجب على كل مسلم مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم تركها والحذر منها، وأن يلتزم بالمشروع"[12].

2- بدع في كيفية أداء الذكر:

ومنها الذكر بالحلق، وأزيز الصدر، وعدم إخراج الحروف من مخارجها. وهذه مخرقة لا يعلمها ـ في زعم الطرقية ـ إلا من وصل، نعوذ بالله من التلبيس.

3- كيفية عقد الذكر:

ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وتقريرا عدُّ الذكر بالأنامل أصابع اليد لا غير. ودرج على ذلك الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، فهو من العمل المتوارث لدى الأمة، تأسيا بنبيها صلى الله عليه وسلم... دون ما حاجة إلى وسيلة أخرى من حصى أو نوى أو سبحة منظومة أو آلة مصنوعة"[13].

4- الغلو في البكاء والخشوع حال الذكر:

وفي هذا محدثات جمة، من تلاعب الشيطان، وتضليل الضالين للعوام، ومنها: التواجد والصعق والغشيان ودعوى الاستغراق والصياح والاضطراب والاختلاج والإغماء والموت والشهيق والهيام، إلى آخر ما هنالك من مقامات الفناء والشهود.

5- الذكر بالسماع الشيطاني[14]:

وهو اتخاذ السماع الشيطاني من الغناء وما يصحبه من وسيلة لعبادة الله في الذكر، وأنه قربة يتقرب بها الذاكرون إلى الله، وإحاطة ذلك بعبارات التحسين والتمليح، كقولهم: إنه يزيد في الشوق إلى الله، ويقوي الذوق والوجد، بل لا يفعل ذلك ـ بزعمهم ـ إلا الواصلون أهل الحقيقة.

وقد أجمع المسلمون على أن هذا من أسوأ أنواع الاعتداء في الذكر والدعاء، وأنه بدعة ضلالة، وعمل محرم قبيح لا يبيح التعبّد به مسلم، وأنه من الفتون واتباع الهوى، وإفساد الدين، والصد عن الذكر والدعاء المشروع، ومشاقة لله فيما شرع لعباده، ومعصية لرسوله فيما بلّغ من وحيه، وخروج على شرعه المطهر.

وأول من أحدثه الزنادقة، إذ أوجدوا الذكر بنوع من التغني بالشعر مع ضرب قضيب على جلد أو مخدة، يسمونه التغبير، قال الإمام الشافعي: "خرجت من بغداد وخلفت بها شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون الناس به عن القرآن". ثم تطورت حال الذكر بالتغبير فسموها: القول، ثم دخلت هذه البدعة طورها الثالث: وهو اتخاذ الغناء، وما يصحبه من رقص وزمر وصفير وتصفيق وآلات لهو من الدف وهو الغربال.

6- من بدع القراء للقرآن الكريم[15]:

من ذلك قراءة الأنغام والتمطيط، والتطريب بترديد الأصوات، والتلحين في القراءة.

ومن ذلك التخصيص بلا دليل قراءةَ آية أو سورة في صلاة فريضة أو نافلة، أو في زمان، أو في مكان، أو حال أخرى، وهكذا من قصد التخصيص وترتيب التعبد بما لم يرد عليه دليل.

ومن ذلك بدع الختم، منها: اجتماع المؤذنين ليلة الختم وتكبيرهم جماعيا، والختم عند القبر، ودعاء الختم داخل الصلاة.

ومن ذلك التزام قول: (صدق الله العظيم) بعد قراءة القرآن.

ومن ذلك الاجتماع للقراءة الجماعية مطلقة، أو مقيدة بزمان أو مكان، بنية التعبد المطلق، واستئجار قارئ وإهداء ثوابها لميت أو حي.

المبحث الثالث: بدع الأزمنة والأمكنة المتعلقة بالذكر:

1- بدع الأزمنة[16]:

إن اختراع أدعية وأذكار مرتبة لبعض الأزمان من ساعة أو يوم أو ليلة أو أسبوع أو شهر أو عام لم يقم عليها دليل ثابت يكون بدعة في الدين، وتعبدا بما لم يأذن به الشرع الكريم.

2- بدع الأمكنة[17]:

قصد الذكر والدعاء وأيٍّ من أنواع التعبد في أيِّ بقعة لم يدل الشرع عليها بخصوصها من قبر أو مسجد أو جبل أو بلد أو قبة أو مشهد ونحو ذلك بدعة ضلالة.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،

 


 


[1] هذا الفصل ملخص لبعض ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد في كتابه الموسوم بـ (تصحيح الدعاء).

[2] أخرجه مسلم في الأقضية (1718)، وهو عند البخاري بغير هذا اللفظ.

[3] انظر: الفتوحات الربانية (1/ 17).

[4] رواه أحمد (6/ 172، 183)، وأبو داود (1480).

[5] البخاري (2952)، و مسلم (2710).

[6] الفتح (11/ 135- 136).

[7] الفتاوى (10/553-565)، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع (ص317).

[8] تصحيح الدعاء (ص343-349)، الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (2/658-666)

[9] الفتاوى (22/ 525).

[10] ملحق المصنفات (46)، وانظر: الدعاء ومنزلته.

[11] الفتاوى (22/523).

[12] تصحيح الدعاء (ص134).

[13] تصحيح الدعاء (ص136-202).

[14] تصحيح الدعاء (ص75-78).

[15] تصحيح الدعاء (ص261-299).

[16] تصحيح الدعاء (ص107).

[17] المصدر السابق (ص100).

 

.