موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  التشاؤم والطيرة: تاسعاً: صور من التشاؤم والتطير عند العرب:                        الصفحة السابقة               الصفحة التالية   

 

تاسعا: صور من التشاؤم والتطير عند العرب:

1- قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ} [النساء:78].

قال ابن جرير رحمه الله: "وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة، يقولوا هذه من عند الله، يعني: من قبل الله وتقديره، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} وإن تنلهم شدة من عيش، وهزيمة من عدّو، وجراح وألم {يَقُولُواْ} لك يا محمد: هذه من عندك بخطئك التدبير"([1]).

وقال ابن القيم رحمه الله: "ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به؛ لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة؛ لأنه خير محض لا شر فيه، وصلاح لا فساد فيه، وحكمة لا عيب فيها، ورحمة لا جور فيها، فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا؛ لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والحكمة والرحمة، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم، وهو عند الله كسائر حظوظهم وأنصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم"([2]).

وقال ابن سعدي رحمه الله: "يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة، أي: خصب وكثرة أموال وتوفر أولاد وصحة، قالوا: {هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ}، وأنهم إن أصابتهم سيئة، أي: جدب وفقر ومرض وموت أولاد وأحباب، قالوا: {هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ} أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله"([3]).

2- وقال تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ}[المائدة:3].

قال ابن جرير رحمه الله: "وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام، وهو استفعلت من القسم: قسم الرزق والحاجات، وذلك أن الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك أجال القداح، وهي الأزلام، وكانت قداحاً مكتوباً على بعضها: (نهاني ربي)، وعلى بعضها: (أمرني ربي)، فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه: (أمرني ربي)، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك، وإن خرج الذي عليه مكتوب: (نهاني ربي)، كفّ عن المضيّ لذلك وأمسك"([4]).

وقال ابن تيمية رحمه الله: "وقد حرم الله الاستقسام بالأزلام في آيتين من كتابه، وكانوا إذا أرادوا أمراً من الأمور أحالوا به قداحاً مثل السهام أو الحصى أو غير ذلك، وقد علموا على هذا علامة الخير، وعلى هذا علامة الشر، وآخر غفل، فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام. فهذه الأنواع التي تدخل في ذلك [أي الطيرة] مثل الضرب بالحصى والشعير واللوح والخشب والورق المكتوب عليه حروف أبجد، أو أبيات من الشعر، أو نحو ذلك مما يطلب به الخيرة فما يفعله الرجل ويتركه ينهى عنها؛ لأنها من باب الاستقسام بالأزلام"([5]).

وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. ومعنى الاستقسام طلب ما يقسم لكم ويقدر بها. وهي قداح ثلاثة، كانت تستعمل في الجاهلية، مكتوب على أحدها (افعل)، وعلى الثاني (لا تفعل)، والثالث (غفل) لا كتابة فيه، فإذا همّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما أجال تلك القداح المتساوية في الحرم، ثم أخرج واحداً منها، فإن خرج المكتوب عليه (افعل) مضى في أمره، وإن ظهر المكتوب عليه (لا تفعل) لم يفعل ولم يمض في شأنه، وإن ظهر الآخر الذي لا شيء عليه أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل به، فحرم الله عليهم الذي في هذه الصورة وما يشبهها، وعوضهم عنه بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم"([6]).

3- ومن صور التشاؤم عند العرب ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال: "وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيراً وتفاؤلاً، فيُسمون اللديغ سليماً باسم السلامة، وتطيراً من اسم السقم، ويسمون العطشان ناهلاً، أي: سينهل ـ والنهل الشرب ـ تفاؤلاً باسم الرِّيِّ، ويسمّون الفلاة مفازةً ـ أي: منجاةً ـ تفاؤلاً بالفوز والنجاة، ولم يسموها مهلكة لأجل الطيرة. وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم، فمنهم من سمّوه بأسماء تفاؤلاً بالظفر على أعدائهم، نحوُ غالبٍ وغلاَّبٍ، ومالكٍ وظالمٍ وعارمٍ ومُنازلٍ ومُقاتلٍ ومُعاركٍ ومُسْهرٍ ومُؤرِّقٍ ومُصْبحٍ وطارقٍ، ومنهم من تفاءل بالسلام كتسميتهم بسالم وثابت ونحوه، ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة كسعدٍ وسعيد وأسعد ومسعود وسُعدى وغانم ونحو ذلك، ومنهم من قصد التسمية بأسماء السِّباع ترهيباً لأعدائهم نحوُ أسد وليث وذئب وضِرْغامٍ وشبل ونحوها، ومنهم من قصد التسمية بما غلُظ وخشن من الأجسام تفاؤلاً بالقوة كحجر وصخر وفِهرٍ وجندلٍ، ومنهم من كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمي ما تلده باسم أول ما يلقاه كائنا من كان من سبع أو ثعلب أو ضب أو كلب أو ظبي أو حشيش أو غيره"([7]).

4- ومن صوره أيضا تطيرهم بالعطاس فقد كانوا يتشاءمون منه كما كانوا يتشاءمون بالبوارح والسوانح، قال امرؤ القيس:

وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل            شديد مِشَكِّ الجنب فعمِ المُنطَّقِ

أراد أنه كان ينتبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم؛ لئلا يسمع عُطاسا فيتشاءم بعطاسه.

قال ابن القيم رحمه الله: "وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عُمراً وشباباً، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له: وَرياً وقُحاباً ـ الوريُ: كالرَّمي، داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب: كالسعال، وزناً ومعنى ـ فكان الرجل إذا سمع عطاساً يتشاءم به يقول: بك لا بي، إني أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي"([8]).

5- ومن صوره عندهم أنهم كانوا يتشاءمون من الزواج في شهر شوال، لذا قالت عائشة رضي الله عنها رداً على ذلك: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟! قال الراوي: وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال([9]).


([1]) جامع البيان (5/174).

([2]) مفتاح دار السعادة (3/276).

([3]) تيسير الكريم الرحمن (1/373-374).

([4]) جامع البيان (6/75-76).

([5]) مجموع الفتاوى (23/67-68).

([6]) تيسير الكريم الرحمن (1/454-455).

([7]) مفتاح دار السعادة (3/310).

([8]) مفتاح دار السعادة (3/356).

([9]) أخرجه مسلم في النكاح (1423).

 

.