موسوعة البحـوث المنــبرية 

.

   تفسير سورة النور: ثالثاً: الآيات (27-31):          الصفحة السابقة        (عناصر البحث)        الصفحة التالية   

 

 

ثالثاً: الآيات (27-31):

{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوٰتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرّجَالِ أَوِ ٱلطّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرٰتِ ٱلنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

أسباب النزول:

1- {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ...}:

عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها: والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، قال: فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً...} الآية[1].

2- {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ...} الآية.

قال مقاتل بن حيّان: بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلال، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ} الآية[2].

3- {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}:

عن المعتمر عن أبيه قال: زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين[3] من فضة، واتخذت جزعاً[4]، فمرّت على قوم، فضربت رجلها فوقع الخلخال[5] على الجزع فصوّت، فأنزل الله {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية[6].

القراءات:

1- {حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا}:

1) {تستأنسوا}: وهي قراءة الجمهور.

2) {تستأذنوا}: وبها قرأ أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير[7].

2- {وَلْيَضْرِبْنَ}:

1) {ولْيضربن} بسكون اللام، وهي قراءة الجمهور.

2) {ولِيضربن} بكسر اللام على الأصل في لام الأمر، وبها قرأ أبو عمرو، ورويت عن ابن عباس[8].

3- {بِخُمُرِهِنَّ}:

1) {بخُمرُهن} بضم الميم، وبها قرأ جمهور القراء.

2) {بخمْرهن} بسكون الميم، وهي قراءة طلحة بن مصرّف[9].

4- {جُيُوبِهِنَّ}:

1) {جُيوبهنّ} بضم الجيم، وهي قراءة الجمهور.

2) {جِيوبهنّ} بكسر الجيم، وبها قرأ ابن كثير وبعض الكوفيين[10].

5- {غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ}:

1) {غيرِ أولي الإربة} بجر (غير)، وبها قرأ الجمهور.

2) {غيرَ أولي الإربة} بنصبها على الاستثناء، وبها قرأ الجمهور[11].

6- {أَوِ ٱلطّفْلِ}:

1) {أو الطفل} اسم جنس بمعنى الجمع، وهي قراءة الجمهور.

2) {أو الأطفال} وهي في مصحف حفصة رضي الله عنها[12].

7- {عَوْرٰتِ}:

1) {عَوْرات} بسكون الواو لاستثقال الحركة على الواو، وقرأ بها الجمهور.

2) {عَوَرات} بفتح الواو، وقرأ بها ابن عامر، وهي مروية عن ابن عباس[13].

8- {أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ}:

1) {أيّهَ المؤمنون} بفتح الهاء، وهي قراءة جمهور القراء.

2) {أيّهُ المؤمنون} وقرأ بها ابن عامر، ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها[14].

المفردات:

1- {تَسْتَأْنِسُواْ}: الاستئناس:هو الاستئذان، لأنه تزول به الوحشة، ويُستأنس به[15].

2- {بِخُمُرِهِنَّ}: الخُمُر: جمع خمار: وهو ما يُخمّر به -أي يُغطّى به- الرأس، وهي التي يسميها الناس: المقانع[16].

3- {جُيُوبِهِنَّ}: الجيوب: جمع جَيْب: وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو مأخوذ من الجَوْب وهو القطع[17].

4- {ٱلإِرْبَةِ}: الإربة: الحاجة، يقال: أرِبْتُ كذا آرِبُ أرَباً، والجمع مآرب، ومنه قوله تعالى: {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ} [طه:18][18].

5- {ٱلطّفْلِ}: الطفل: هو الذي لم يراهق الحُلُم، وهو هنا اسم جنس بمعنى الجمع[19].

6- {عَوْرٰتِ}: العورات: جمع عورة، وهي في الأصل: كل ما يُحترز من الاطلاع عليه، وغلبتْ في سوأة الرجل والمرأة[20].

المعنى الإجمالي:

يرشد الله عباده المؤمنين في هذه الآيات إلى توجيهات ربانية حكيمة، فنهاهم عن دخول بيوت غير بيوتهم بغير استئذان من أهلها وسلام عليهم، وينبههم أن ذلك خير لهم، فإن في عدم الاستئذان مفاسد كثيرة، فإن لم يجدوا فيها أحداً فلا يدخلوها، وإن قيل لهم: ارجعوا، فليرجعوا فالرجوع - في هذه الحالة - أشد تطهيراً للسيئات، وزيادة للحسنات، مذكراً إياهم أنه عليم بكل ما يعملون، مطّلع عليه لا تخفى عليه خافية، وسيجازي كل واحد بعمله، وهذا الحكم في البيوت المسكونة، سواء كان فيها متاع للإنسان الداخل أم لا، وفي البيوت غير المسكونة التي لا متاع فيها للإنسان، وأما البيوت غير المسكونة، وهي فيها متاع للإنسان الداخل، فلا بأس بدخولها والانتفاع بما فيها، مؤكداً علمه سبحانه بكل ما يفعل الإنسان من الأعمال الظاهرة والخفيّة، فلذا شرع لهم ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية، ومن هذه التوجيهات أمره تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرّم عليهم، فإن وقع شيء من ذلك بغير قصد، فليصرفوا أبصارهم، آمراً إياهم أيضاً بحفظ فروجهم من رؤيتها ومن الزنا والعياذ بالله، مذكراً أن ذلك الحفظ أطهر وأطيب وأنمى لأعمالهم؛ فإن من حفظ فرجه وبصره طهّره من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش، وزكت أعماله، ومن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، بإنارة بصيرته، وحفظه، وعبّر هنا بـ(من) التبعيضيّة لأنه يجوز النظر في بعض الأحوال كالشهادة والخِطبة وغيرها، ثم لما أمر المؤمنين بغض الأبصار، وحفظ الفروج، أمر المؤمنات بذلك، وزاد بأن لا يظهرن زينتهن كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن على اختلاف في بعض أجزاء البدن، ولما كانت الثياب الظاهرة لا بد لها منها استثناها من المنهي عن إظهاره، ثم أمرهن أن يسدلن خمرهن على جيوبهن، وفي هذا كمال الاستتار، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، ثم كرر الشارع الحكيم النهي عن إظهار الزينة إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن وإن علوا كالجد وأب الجد الخ، أو إخوانهن أو بني إخوانهن، ويشمل الأشقاء أو لأب أو لأم، وكذلك بني أخواتهن، أو نسائهن، وقيدوهن بالمسلمات، أما الكافرات فلا تظهر زينتها أمامهن، لعدم احتراز الكافرة عن وصف المرأة المسلمة لزوجها، وكذا ما ملكت أيمانهن، وكذا التابعين لهن من الرجال الذين لا شهوة لهم، كالمجنون، والعنّين الذي لا يقدر على إتيان النساء ولا يشتهيهنّ، ونحوهما، وكذا الطفل الذين لم يميزوا؛ لأنهم ليس لهم علم أو إدراك بهذه الأمور ولا شهوة لهم، ولم يذكر العم والخال، لأنهم داخلون ضمن أبنائهم، فكل هؤلاء للنساء أن يبدين الزينة الظاهرة أمامهن، ما عدا الزوج فله أن يرى جسد المرأة كله لأنها محل استمتاعه. ثم نهاهن أن يضربن بأرجلهن الأرض ليُعلم ما يخفين من الزينة وهي الخلخال، فصوته يثير كوامن الشهوة لدى الرجال الأجانب، وبعد أن أوصى تعالى بكل هذه الوصايا العظيمة الرحيمة، وكان لا بد للبشر من الوقوع في التقصير والخطأ والزلل لأنهم بشر، أمرهم تعالى جميعاً بالتوبة والإنابة، وعلّق على ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة، فلا فلاح إلا بالتوبة والرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً.

نصوص ذات صلة:

1- قوله تعالى: {حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا}:

ورد في السنة المطهرة صفة هذا الاستئذان، فعن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصاري، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتية، فأتيت بابه، فسلّمت ثلاثاً فلم يرد علي، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا، فقال: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يُؤذن له فليرجع))، قال عمر: أقم عليه البيّنة وإلا أوجعتك، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم، قال: فاذهب به. وفي رواية أن عمر قال: ألهاني عنه الصفق بالأسواق[21].

2- قوله تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ} الآية.

ورد في السنة النبوية الأمر بغض البصر في أحاديث كثيرة، منها ما رواه أبو سعيد الخدري أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) فقالوا: ما لنا بُدٌّ إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه)). قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر، وكفّ الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر))[22].

ومنها ما رواه جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري[23].

3- قوله تعالى: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}:

ورد في السنة المطهرة الأمر بحفظ العورات إلا من الزوج أو ما ملكت اليمين، فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نَذَر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك))، قال: قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها))، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: ((فالله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيى منه))[24].

4- قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ}:

ورد أثر عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها[25].

5- في قوله عز وجل: {وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}:

ورد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم توبة خير الخلق عند الله تعالى، فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة))[26]! هذا وهو خير خلق الله، وأعبد البشر لله، وأتقاهم له.

الفوائـد:

1- ذكر العلماء - استنباطاً من هذه الآيات ومن الأحاديث - آداب الاستئذان، التي تتلخص في: أن الاستئذان يكون أولاً بالسلام ثلاثاً، ثم يقول: أَدخل؟ وقد ورد في لفظ حديث أبي سعيد السابق لفظه: أأدخل؟ [27]، فإن أُذن له وإلا رجع، وأن يكون الوقوف على الباب إما على اليمين أو اليسار ولا يقابل بل الباب لئلا يُفتح الباب فيطلع على أهل الدار، فإن الاستئذان جعل من أجل البصر، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: اطّلع رجل من جُحْرٍ في حُجَر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرىً[28] يحُكّ به رأسه، فقال: ((لو علمتُ أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))[29]، وعلى المستأذن إذا سئل: من؟ أن يذكر ما يُعرف به: كاسمه أو كنيته إن كان يتميز بها فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال: ((أنا أنا)) كأنه كرهها[30]، فهذا مجمل أحكام الاستئذان[31].

2- قالوا: ليس على الزوج إذن إذا دخل على زوجته؛ لأنه يحل له أن يراها على أي هيئة، ولكن كان بعض السلف إذا أراد الدخول على أهله قدّم لذلك بما يشعر به، لئلا يراهم على هيئة لا يحبون أن يراهم عليها، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا دخل الدار استأنس وتكلم ورفع صوته، وقال الإمام أحمد: إذا دخل الرجل بيته استُحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه، ولهذا جاء في الصحيح النهي عن أن يطرق الرجل أهله ليلاً[32]، وفي الحديث الآخر أنه نهاهم أن يدخلوا على أهلهم بعد عودتهم من سفرٍ وقال: ((لكي تمتشط الشعثة، وتستحدّ[33] المغيبة[34])). وهذا محمول على الأكمل والأفضل[35].

3- في قوله عز وجل: {تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا} اختلفوا: هل السلام قبل الاستئذان أم العكس؟ والصحيح أن يسلم أولاً ثم يستأذن كما ورد في حديث أبي سعيد وغيره كما تقدم[36].

4- قالوا: وإنما خُصّ الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كُرر ثلاثاً سُمع وفُهم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً[37]، وإذا سلّم سلّم ثلاثاً، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث فهم أن رب المنزل لا يريد الإذن له[38].

5- في قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ...}:

اختُلف في هذه البيوت؛ فقيل: هي الفنادق في طرق السابلة، وقيل: هي مساكن لا يسكنها أحد، بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وقيل: هي دُور مكة لأنها أُخذت عنوة، وقيل: هي حوانيت القيسريات، وقيل: الخِرب التي يقضي الناس فيها حاجاتهم، والصواب أنها كل منزل ينزله القوم ليلاً أو نهاراً، أو خربة يدخلها لقضاء الحاجة، أو دار ينظر إليها[39].

6- ذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة أو بغير شهوة، واستدلوا بحديث أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجبا منه))، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: ((أفعمياوان أنتما لستما تبصرانه؟!))[40].

وقال بعضهم: إذا أمنت الفتنة، أو كان لضرورة جاز، واستدلوا بحديث عائشة عندما سمح لها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ترى الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد يوم العيد[41]. وبحديث فاطمة بنت قيس عندما أمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم لأنه أعمى لا يراها إذا وضعت ثيابها[42]، فالصواب جواز ذلك إذا أمن الفتنة لضرورة[43].

ومن فوائد هذه الآية أيضاً: قالوا: الزينة على قسمين: خِلْقِيّة، ومكتسبة؛ فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة، وجمال الخِلقة، ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب[44].

7- في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اختلفوا في تفسير {مَا ظَهَرَ}، فقال ابن مسعود ومن وافقه: ظاهر الزينة هو الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: ظاهر الزينة الوجه والكفّان والخاتم، وعلى هذا القول يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها، لأنها هي ما ظهر من الزينة، واستدل هؤلاء بحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقيقة، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا))، وأشار إلى وجهه وكفيه. قال أبو داود: هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها[45]، واستدلوا بغيره من الأدلة، أما أصحاب القول الأول فاستدلوا بالآية هنا: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} وبغيرها، وردوا حديث أسماء لضعفه[46].

والراجح - والله أعلم - عدم جواز ذلك، وخاصة في زمن كهذا الزمن الذي كثر فيه الفساد واستشرى، درءاً للفتنة، وسدّاً للذريعة، على أن القائلين بجواز كشف الوجه والكفين يقولون بأفضلية سترهما، وأنه أكمل وأبعد عن الفتنة وأسبابها.

9- قوله عز وجل: {أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ} يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث، وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن عَلَوْا من جهة الذكران لآباء الآباء، وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا، وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، وكذلك أخواتهن، وبنو الإخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا[47].

10- قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ}:

ظاهر الآية أنها يجوز لها أن تظهر على رقيقها ذكراً كان أو أنثى، مسلماً كان أو كتابياً، وهو مذهب جمهور أهل العلم، واستدلوا بحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبدٍ كان قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: ((إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك))[48].

11- في قوله تعالى: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ...} وقوله: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ...} (من) في الآيتين تبعيضيّة، فالمعنى غض البصر على ما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وقيل: وجه التبعيض أنه يُعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد، كما مر في الحديث السابق[49].

12- قوله تعالى: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ... لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال بعض أهل العلم: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه؛ جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوضٍ ومرفوع[50].


[1] أخرجه الطبري في تفسير هذه الآية (18/110-111)، وانظر: الجامع للقرطبي (12/213)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/448)، روح المعاني (18/133).

[2] ذكره ابن كثير (3/453)، وهو بلاغ بدون إسناد كما ترى.

[3] بُرَتَيْن: مثنى (بُرَة) بتخفيف الراء، وهي حلقة من سوار وقرط وخلخال وما أشبهها. انظر: لسان العرب (1/395) [بري].

[4] جزعاً: تقدم معنى الجزع في حديث الإفك، وأنه نوع من الخرز.

[5] الخلخال: ما تلبسه المرأة في رجلها من حلي. انظر: الصحاح للجوهري (4/1689)، ولسان العرب، مادة [خلل].

[6] أخرجه الطبري في تفسير هذه الآية (18/124)، وظاهره الانقطاع. وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/238).

[7] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/213)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/447).

[8] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/230)، فتح القدير (4/34-35).

[9] انظر: فتح القدير (4/35).

[10] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/230)، فتح القدير (4/35).

[11] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/236)، فتح القدير (4/36).

[12] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/236)، فتح القدير (4/36).

[13] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/237)، روح المعاني (18/146).

[14] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/238)، روح المعاني (18/147).

[15] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/213)، فتح القدير (4/29)، أضواء البيان (6/167)، تيسير الكريم الرحمن السعدي (5/407).

[16] انظر: مفردات الراغب (ص 298)، الجامع لأحكام القرآن (12/230)، تفسير القرآن العظيم (3/454).

[17] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/230).

[18] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/234)، فتح القدير (4/36).

[19] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/236).

[20] روح المعاني (18/146).

[21] أخرجه البخاري في البيوع، باب الخروج في التجارة (2062)، ومسلم في الآداب، باب: الاستئذان (2153)، واللفظ له. وانظر أجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/215)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/446).

[22] أخرجه البخاري في المظالم والغضب، باب أفنية الدور.. (2465)، ومسلم في اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات... (2121). وانظر: الجامع لأحكام القرآن (12/223)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/451).

[23] أخرجه مسلم في الآداب، باب: نظر الفجاءة (2159)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (12/223)، تفسير القرآن العظيم (3/450-451).

[24] أخرجه أحمد (5/3)، وأبو داود في الحمام، باب ما جاء في التعري (4017)، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في حفظ العورة (2794)، وقال: حديث حسن، وابن ماجة في النكاح، باب في التستّر عند الجماع (1920)، وصححه الحاكم (4/199)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1810)، وانظر: تفسير القرآن العظيم (3/451).

[25] أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن. في ترجمة الباب. وانظر: الجامع لأحكام القرآن (12/230)، وتفسير القرآن العظيم (3/454).

[26] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والإكثار منه (2702).

[27] سنن الترمذي: كتاب الاستئذان والآداب، باب ما جاء في أن الاستئذان ثلاث (2690)، وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كلدة بن حنبل بقول هذه الكلمة، انظر: سنن الترمذي: الكاب والباب السابقين، حديث رقم (2710). وانظر: صحيح سنن الترمذي (2180)، والسلسلة الصحيحة للألباني (818).

[28] مِدرىً: المدرى - بكسر الميم وإسكان الدال المهملة وبالقصر - هي حديدة يُسوى بها شعر الرأس، وقيل: هو شبه المشط وقيل غير ذلك. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (14/136).

[29] أخرجه البخاري في الاستئذان باب: الاستئذان من أجل البصر (6241)، ومسلم في الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره (2156).

[30] أخرجه البخاري في الاستئذان، باب: إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا (6250)، ومسلم في الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا... (2155).

[31] وانظر: تفصيلها في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/214-215)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/447)، روح المعاني (18/135)، أضواء البيان (6/166-167).

[32] أخرجه البخاري في الحج، باب: لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة (1801)، ومسلم في الإمارة، باب كراهة الطروق... (715)، وزاد: ((يتخدّنهم أو يلتمس عثراتهم)) عن جابر رضي الله عنه.

[33] أي تحلق شعر العانة.

[34] أخرجه البخاري في النكاح، باب: تزويج الثياب (5079)، ومسلم في الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر (715) عن جابر رضي الله عنه.

[35] انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/449).

[36] وانظر: روح المعاني (18/134-135)، أضواء البيان (6/173).

[37] أخرجه البخاري في العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثاً ليُفهم عنه (94).

[38] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/215).

[39] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/221).

[40] أخرجه أحمد (6/296)، وأبو داود في اللباس، باب في قوله عز وجل: {وقل للمؤمنات...} (4112)، والترمذي في الأدب، باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال (2778)، وقال: حسن صحيح. وضعفه الألباني في إرواء الغليل (1806).

[41] أخرجه البخاري في الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد (455)، وفي العيدين، باب: إذا فاته العيد... (988) وغيرها، ومسلم في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب... (892).

[42] أخرجه مسلم في الطلاق، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها (1480).

[43] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/227-228)، تفسير القرآن العظيم (3/453).

[44] الجامع لأحكام القرآن (12/229).

[45] أخرجه أبو داود في اللباس، باب فيما تبدي المرأة من زينتها (4104).

[46] انظر لمزيد تفصيل: الجامع لأحكام القرآن (12/228-229)، تفسير القرآن العظيم (3/453-454)، فتح القدير (4/34)، روح المعاني (18/141)، أضواء البيان (6/193-200).

[47] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/232-233).

[48] أخرجه أبو داود في اللباس، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته (4106)، قال الألباني: إسناده جيد. التعليق على مشكاة المصابيح برقم (3120).

[49] انظر: فتح القدير (4/33).

[50] الجامع لأحكام القرآن (12/238).

 

.