الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام

.

  توديع رمضان واستقبال العيد: ثانيًا: آداب متعلقة بتوديع رمضان:                                                          قائمة محتويات هذا الملف  

 

ثانياً: آداب متعلقة بتوديع رمضان:

1-   الإكثار من الاستغفار:

فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، ويختم به المجالس، فإن كانت ذكرًا كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوًا كان كفارة لها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة.

وقال: قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} [هود:47]، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ} [الشعراء:82]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَٱغْفِرْ لِى} [القصص:16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [الأنبياء:87]([1]).

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (الغيبة تحرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجئ بصوم مرقع فليفعل) ([2])، وعن ابن المنكدر: :معنى ذلك: الصيام جنة من النار ما لم يخرقها، والكلام السيء يخرق هذه الجنة الجنة، والاستغفار يرقع ما تخرق منها، فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح، له شافع.

كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفوا خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع.

كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم، ارحموا مَنْ حسناته سيئات، وطاعاته كلها غفلات"([3]).

2-الاهتمام لقبول العمل والخوف من ردّه:

قال ابن رجب: "كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين {يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60].

روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]؟!)([4]).

وعن فضالة بن عبيد، قال: (لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ}).

وقال ابن دينار: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل"([5]).

وقال عطاء السليمي: "الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله".

وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم، أيقبل منهم أم لا".

قال بعض السلف: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم".

خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد الفطر، فقال في خطبته: "أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم".

روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادى في آخر ليلة من شهر رمضان: (يا ليت شعري! من هذا المقبول فنهنّيه؟ ومن هذا المحروم فنعزّيه؟).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: (من هذا المقبول منا فنهنّيه؟ ومَنْ هذا المحروم منا فنعزّيه؟).

ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟ كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران، رُبّ قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش"([6]).

وكان صالح بن عبد الجليل إذا انصرف يوم العيد جمع عياله وجلس يبكي فيقول له إخوانه: هذا يوم سرور فيقول: صدقتم، ولكني عبدٌ أمرني سيدي أن أعمل له عملاً فعملته، فلا أدري أقبله مني أم لا؟ فالأولى بي طول الحزن([7])!.

3-الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان وإن قلّت:

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) ([8]).

قال ابن بطال: "إنما حض النبي عليه السلام أمته على القصد والمداومة على العمل وإن قل خشية الانقطاع عن العمل الكثير فكأنه رجوع في فعل الطاعات، وقد ذم الله ذلك".

وكانت عائشة تقول: (إذا عملت العمل لزمته) ([9]).

وقال النووي: "وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خير من الكثير المنقطع ؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة"([10]).

قال الحسن رحمه الله: "أيْ قوم! المداومة المداومة، إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، واقرأ إن شئت قوله: {وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ} [الحجر:99]"([11]).

قال ابن رجب: "من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصِلَها بطاعة أخرى، وعلامة ردّها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد السيئة، تمحوها! وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها! ذنب بعد التوبة، أقبح من سبعين ذنبًا قبلها. النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت، سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعّوذوا به من تقلّب القلوب، ومن الحَوْر بعد الكَوْر، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة"([12]).

ومن الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان، صوم ستٍ من شوال:

عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر))([13]).

قال ابن رجب: "استحب صيام ستة أيام من شوال أكثر العلماء"([14]).

وقال: "وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع الشكر، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرًا عقيب ذلك"([15]).

وقال ابن رجب في الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان: "هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير للآجال، ومواقيت للأعمال، ثم تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم، ليسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم.

إخواني: المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.

يا شباب التوبة: لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام؛ فإن صبرتم تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب.

من ترك شيئًا لله لم يجد فقده عوضه الله خيرًا منه: {إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70].

وهذا الخطاب للشباب، فأمَّا الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح وأقبح؛ لأنَّ الشباب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره، وهو مخاطر؛ فإنَّ الموت قد يعاجله، وقد يطرقه بغتة. فأمَّا الشيخ فقد شارف مركبه ساحل بحر المنون فماذا يؤمل؟!"([16]).

وقال ابن الجوزي في هذا المعنى: "رمضان القوم دائم، وشوالهم كذلك صائم، وأعيادهم سرور القيام بالمحبوب، وأفراحهم بكمال التقى وترك الذنوب، إذا جنّ عليهم الليل عادت القلوب بالمناجاة جُددا، وإذا جاء النهار سلكوا من الجد جَددا، يجمعون هممهم فيما أهمهم إذا بات همُّ الغافل بدَدا، جزموا على ما عرفوا وما انهزموا أبداً، أعيادهم بقرب القلوب إلى المحبوب دائمة، وأقدامهم في الدجى على باب اللجأ نائمة، وأرواحهم بالاشتياق إلى الملك الخلاّق هائمة، قرَّبَهم مولاهم وأدنى فالنفوس عن الفاني الأدنى صائمة، تزينت لهم لذات الدنيا معاً، فما وجدت في قلوبهم لها موضعًا.

إخواني: ليس العيد ثوبًا يجر الخيلاء جره، ولا تناول مطعم بكف شَرِهٍ لا يؤمن شَرُّه، إنما العيد لبس توبة عاص تائب يسر بقدوم قلب غائب.

يا من وفى رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأى العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثني عليه، كم من صحيح هيَّأ طيب عيده، صار ذاك الطيب في تلحيده، سلبتهم والله أيدي المنون، فأنزلتهم قَفْراً ليس بمسكون، فهم في القبور بعد البيان خَرِسُون، ومن نيل آمالهم أو بعضها آيسون، وهكذا أنتم عن قريب تكونون، وقد دلّهم على صدق قولي ما تعلمون، أما ترون الأتراب كيف يتغلبون، أترى ضلت الأفهام، أم عميت العيون، {أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} [الطور:15]"([17]).


 

([1])  أخرجه البيهقي في السنن (4/175)، وأبو نعيم في الحلية (5/304).

([2])  أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/316).

([3])  لطائف المعارف (383) وما بعدها بتصرف يسير.

([4])  أخرجه أبو نعيم في الحلية (10/388).

([5])  أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/377).

([6])  لطائف المعارف، لابن رجب (ص375) وما بعدها بتصرف يسير، والآثار الواردة فيه لم أرها في غيره مع طول بحث.

([7])  أورده ابن الجوزي في (التبصرة) (2/117)، وابن رجب في: لطائف المعارف (ص376)، ولم أره في غيرهما.

([8])  أخرجه البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6464)، ومسلم: في صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (783)، واللفظ له.

([9])  شرح البخاري (10/179).

([10])  شرح مسلم (6/71).

([11])  أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص7)، وأحمد في الزهد (ص272).

([12])  لطائف المعارف (ص399).

([13])  أخرجه مسلم في: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164).

([14])  لطائف المعارف (ص389).

([15])  لطائف المعارف (ص394).

([16])  لطائف المعارف (ص398).

([17])  التبصرة (2/120) وما بعدها بتصرف.

 
.