الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام

.

  السحور والفطر أحكام وآداب: ثانيًا: الفطر:                                                                             قائمة محتويات هذا الملف  

 

ثانيًا: الفطر:

تعريفه: "الفَطْر للصائم، والاسم الفِطْر، والفِطْرُ: نقيضُ الصوم"([1]).

وقال الجوهري: "الفطور: ما يفطر عليه"([2]).

وقت الإفطار:

قال تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} [البقرة:187].

قال الطبري: "وأما قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل. فدل بذلك على أن لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم"([3]).

وقال القرطبي في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ}: "أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف، وإلى غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ... فَشَرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار"([4]).

وقال ابن كثير: "يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً"([5]).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))([6]).

قال الخطابي: "قوله: ((فقد أفطر الصائم)) فمعناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل، وقيل: معناه أنه قد دخل في وقت الفطر، وحان له أن يفطر، كما قيل: أصبح الرجل، إذا دخل في وقت الصبح، وأمس وأظهر، كذلك"([7]).

وقال النووي: "قال العلماء: كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين، ويلازمهما؛ وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في وادٍ ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء، والله أعلم"([8]).

قال ابن الملقن: "الإشارة في الأول إلى جهة المشرق وفي الآخر إلى جهة المغرب، وهما متلازمان في الوجود، إذ لا يقبل الليل إلا إذا أدبر النهار"([9]).

وقال أيضا: "يستفاد من الحديث بيان وقت الصوم وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسّي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه، حيث جعل دخول الليل فطراً شرعاً"([10]).

وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: ((يا فلان، قم فاجْدَح([11]) لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجدْح لنا))، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، قال: إن عليك نهاراً، قال: ((انزل فاجْدح لنا))، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم))([12]).

قال النووي: "معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياماً، وكان ذلك في شهر رمضان، كما صرّح به في رواية يحيى بن يحيى فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدْح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحل إلاّ بعد ذهاب ذلك... وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أنّ ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظراً تاماً، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء"([13]).

وقال ابن حجر: "في الحديث أيضاً استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقق غروب الشمس حلّ الفطر"([14]).

وقال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاكٌ، هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين، لم يخرج عنه إلا بيقين، والله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ}. وأول الليل مغيب الشمس كلها في الأفق عن أعين الناظرين، ومن شك لزمه التمادي حتى لا يشك في مغيبها"([15]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويستحب التعجيل إذا غاب القرص مع بقاء تلك الحمرة الشديدة، ويستدل على مغيبها باسوداد ناحية المشرق، وإذا تيقن أو غلب على ظنه مغيبها جاز له الفطر، وليس عليه أن يبحث بعد ذلك. قاله أصحابنا، فأما مع الشك فلا يجوز له الفطر، والاختيار أن لا يفطر حتى يتيقن الغروب"([16]).

وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان... زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة... وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلاّ بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، أخروا الفطور وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان"([17]).

وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، عن سؤال ورد إليها بشأن المسافر بالطائرة، متى يفطر؟ بقولها: "الأصل أن لكل شخص في إمساكه في الصيام وإفطاره وأوقات صلاته حكم الأرض التي هو عليها أو الجو الذي يسير فيه، فمن غربت عليه الشمس في مطار الظهران مثلاً، أفطر وصلّى المغرب، وأقلعت به الطائرة متجهة إلى الغرب، ورأى الشمس بعدُ باقية فلا يلزمه الإمساك، ولا إعادة صلاة المغرب؛ لأنه وقت الإفطار أو الصلاة له حكم الأرض التي هو عليها، وإن أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس بدقائق واستمر معه النهار فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يصلي المغرب حتى تغرب شمس الجو الذي يسير فيه حتى ولو مرّ بسماء بلد أهلها قد أفطروا وصلوا المغرب وهو في سمائها يرى الشمس... وهذا هو مقتضى الأدلة الشرعية، قال تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} [البقرة:187]، وقال: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.

قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))([18])، ولكن لو نزلوا في مكان قد غربت فيه الشمس صار لهم حكم ذلك المكان في الصوم والصلاة مدة وجودهم فيه([19]).

استحباب تعجيله:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))([20]).

قال ابن عبد البر: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاك هل غابت الشمس أم لا؟ لأن الفرض إذا لزم بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين"([21]).

وقال المهلب: "إنّما حضّ عليه السلام على تعجيل الفطر؛ لئلا يزاد في النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة في فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام"([22]).

وقال القاضي عياض: "ظاهره أنه عليه السلام أشار أن فساد الأمور يتعلق بتغيُّر هذه السنة التي هي تعجيل الفطر، وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعلم على فساد الأمور"([23]).

عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم))([24]).

قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على الرد على المتشيعة الذين يؤخرون إلى ظهور النجم، ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر؛ لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة، ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة"([25]).

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون))([26]).

قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتابين، وأن في موافقتهم ثلماً للدين، قال الله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}"([27])[المائدة:51].

قال ابن الملقن: "كون الناس تفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهراً بتعجيله في الرواية التي ذكرناها لما فيه من إظهار السنة، فإن الخير كله في متابعتها والشر كله في مخالفتها، وكانت الصحابة رضي الله عنهم إذا خُذلوا في أمر فتشوا على ما تركوا من السنة، فإذا وجدوه علموا أن الخذلان إنما وقع بترك تلك السنة، فلا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ما حافظوا على سنة تعجيل الفطر، وإذا أخروه كان علامة على فسادٍ يقعون فيه"([28]).

قال ابن حجر: "ظهور الدين مستلزم لدوام الخير"([29]).

عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله – يعني ابن مسعود – قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية زاد: والآخر أبو موسى([30]).

قال الطيبي: "يعني تَمَسّك ابن مسعود بالعزيمة من السنة، وأبو موسى بالرخصة فيها"([31]).

قال القاري - متعقباً كلام الطيبي -: "وهذا إنما يصح لو كان الاختلاف في الفعل فقط، أما إذا كان الخلاف قولياً فيحمل على أن ابن مسعود اختار المبالغة في التعجيل، وأبو موسى اختار عدم المبالغة فيه، وإلاّ فالرخصة متفق عليها عند الكل، والأحسن أن يحمل عمل ابن مسعود على السنة، وعمل أبي موسى على بيان الجواز"([32]).

قال عمرو بن ميمون: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأ سحوراً"([33]).

الفطر قبل الصلاة:

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ([34]).

وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً لم يصل حتى نأتيه برطب وماء ([35]).

قال محمود خطاب السبكي: "وفي الحديث استحباب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب"([36]).

ما يفطر عليه:

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ([37]).

قال ابن العربي: "الحكمة ـ والله أعلم ـ في الفطر على التمر ما فيه من البركة، وأنها أفضل المطعومات، فتعقُبُ ليلاً أفضلَ العبادات في النهار، والماء أفضل المشروبات فيكون بدلها"([38]).

وقال الشوكاني: "وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف الصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة، وإذا كانت العلة كونه حلواً، والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه حلاوة فبفحوى الخطاب، وما كان مساوياً له فبلحنه"([39]).

يقول الدكتور قباني في بيان فوائد الفطر على التمر:

"فالصائم يستنفد في نهاره عادة معظم وقود جسده، أي: يستنفد السكر المكتنز في خلايا جسمه، وهبوط نسبة السكر في الدم عن حدها المعتاد هو الذي يسبب ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل وزوغان في البصر وعدم قدرة على التفكير والحركة؛ لذا كان من الضروري أن نمدّ أجسامنا بمقدار وافر من السكر ساعة الإفطار، فالصائم المتراخي المتكاسل في أواخر يوم صيامه، تعود إليه قواه سريعاً ويدب النشاط إلى جسمه في أقل من ساعة إذا اقتصر في إفطاره على المواد السكرية ببضع تمرات مع كأس ماء أو كأس حليب، وبعد ساعة يقوم الصائم إلى تناول عشائه المعتاد، ولهذا النمط من الإفطار ثلاث فوائد:

1- أن المعدة لا ترهق بما يقدم إليها من غذاء دسم وفير، بعد أن كانت هاجعة نائمة طوال ثماني عشرة ساعة تقريباً، بل تبدأ عملها بالتدريج في هضم التمر السهل الامتصاص، ثم بعد نصف ساعة يقدم إليها الإفطار المعتاد.

2- أن تناول التمر أولاً يحد من جشع الصائم، فلا يقبل على المائدة ليلتهم ما عليها بعجلة دون مضغ أو تذوق.

3- أن المعدة تستطيع هضم المواد السكرية من التمر خلال نصف ساعة... فيزول الإحساس بالدوخة والتعب سريعاً"([40]).

 هل يقدم الطعام الحلو على الماء عند فقد التمر؟

قال ابن عثيمين: "إذا كان عند الإنسان عسل وماء، فأيهما يقدم الماء أو العسل؟ يقدّم الماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن لم، فعلى ماء فإنه له طهور)) ولكن لا بأس بأن يشرب الماء ثم يأكل العسل، وعلى كلّ يفطر على الماء مقدماً على غيره، فإن لم يجد ماء ولا شراباً آخر ولا طعاماً ينوى الفطر بقلبه، ويكفي"([41]).

ما يسن من الذكر عند الإفطار:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله))([42]).

قال الطيبي: "((ثبت الأجر)) بعد قوله: ((ذهب الظمأ)) استبشار منهم؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد أن يستلذ بما أدركه مزيد استلذاذ ذكر تلك المشقة، ومن ثم حمد أهل السعادة في الجنة بعد ما أفلحوا بقوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}"([43])[فاطر:34].

وقال القاري: "((وابتلت العروق)) أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش، وقال: ((ثبت الأجر)) أي زال التعب وحصل الثواب، وهذا حث على العبادات، فإن التعب يسير لذهابه وزواله، والأجر كثير لثباته وبقائه"([44]).

التقليل من الطعام وعدم الإسراف:

قال الله تعالى: {وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].

قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة) ([45]).

قال ابن العربي: "والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء، فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام، وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق، فيكون ممن قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ} [الإسراء:27]. وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر، فذلك محرم أيضاً"([46]).

وقال القرطبي: "قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبّط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه"([47]).

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة)) ([48]).

قال المناوي: "وهذا الخير جامع لفضائل تدبير المرء نفسه، والإسراف يضر بالجسد والمعيشة، والخيلاء تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس، وبالآخرة حيث تكسب الإثم"([49]).

عن المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه))([50]).

قال ابن رجب: "وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها... قال الحارث (الطبيب): الذي قتل البريّة، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام.

وأما منافع تقليل الطعام بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك"([51]).

وقال المباركفوري: "جعل البطن أولاً وعاءً كالأوعية التي تتخذ ظروفاً لحوائج البيت توهيناً لشأنه، ثم جعله شر الأوعية؛ لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوّم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شراً منها"([52]).

وقال محمد بن واسع: "من قلّ طعامه، فهم، وأفهم، وصفا، ورقَّ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد"([53]).

وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسِّي القلب"([54]).

وسئل ابن عثيمين عن الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار، هل يقلّل من ثواب الصوم؟

فأجاب: "لا يقلل من ثواب الصيام، والفعل المحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه، ولكن ذلك يدخل في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. فالإسراف نفسه محظور، والاقتصاد نصف المعيشة، وإذا كان لديهم فضل فليتصدقوا به فإنه أفضل"([55]).

تفطير الصائمين:

عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً))([56]).

قال ابن العربي: "إن الله بفضله على الخلق آجرهم على ما ابتلاهم به من الأمر والنهي، لا باستحقاقٍ وجب لهم، ثم زادهم من فضله المضاعفة فيه، ثم زادهم من فضله أنْ جعل للمُعِين عليه لغيره مثل أجره، لا ينقص ذلك من أجره شيئاً... والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"([57]).

وقال القاري: "وهذا الثواب لأنه من باب التعاون على التقوى والدلالة على الخير"([58]).


 

([1]) لسان العرب (10/288) (فطر).

([2]) الصحاح (2/781) (فطر).

([3]) جامع البيان (3/532).

([4]) الجامع لأحكام القرآن (2/327).

([5]) تفسير القرآن العظيم (1/322).

([6]) رواه البخاري في الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ (1954)، ومسلم في: الصيام، باب: بيان القضاء وقت الصوم (1100).

([7]) معالم السنن (3/234).

([8]) شرح صحيح مسلم (8/217).

([9]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/313).

([10]) المرجع السابق (5/316).

([11]) قال الخطابي: "الجدْح: أن يخاض السويق بالماء، ويحرك حتى يسـتوي، وكذلـك اللبن ونحـوه" (معالم السنن 3/235).

([12]) رواه البخاري في الصوم، باب متى يحل فطر الصائم؟ (1955)، ومسلم في الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم (1101).

([13]) شرح صحيح مسلم (8/218).

([14]) فتح الباري (4/197).

([15]) التمهيد (21/98).

([16]) شرح العمدة (1/503- الصيام).

([17]) فتح الباري (4/199).

([18]) تقدم تخريجه.

([19]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/294، 295، 296).

([20]) رواه البخاري كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (1957)، ومسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (2513) .

([21]) التمهيد (21/97-98).

([22]) شرح ابن بطال على البخاري (4/104).

([23]) إكمال المعلم (4/33).

([24]) رواه ابن خزيمة كتاب الصيام باب ذكر استحسان سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ما لم ينتظر بالفطر (2061)، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه (الإحسان / كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3510) )، وصححه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.

([25]) إحكام الأحكام (2/232).

([26]) رواه الإمام أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب: الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر (2353)، وابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: ذكر ظهور الدين ما عجل الناس فطرهم (2060)، وابن حبان في: صحيحه، الإحسان: كتاب: الصوم، باب: ذكر العلة التي من أجلها يستحب للصوام تعجيل الإفطار (3503)، وحسِّنه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة.

([27]) شرح الطيبي على المشكاة (4/156).

([28]) الإعلام بفوائد عمدة الإحكام (5/310).

([29]) فتح الباري (4/199).

([30]) رواه مسلم كتاب: الصيام، باب: فضل السحور، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (1099).

([31]) شرح الطيبـي على المشكاة (4/156).

([32]) مرقاة المفاتيح (4/490).

([33]) رواه عبد الرزاق في: المصنف كتاب: الصوم، باب: تعجيل الفطر (7591)، والفريابي في: كتاب: الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الإفطار وما روي فيه (56)، وصحح إسناده ابن حجر في: الفتح (4/199).

([34]) رواه الإمام أحمد (3/164)، وأبو داود في الصوم، باب: ما يفطر عليه (2339)، والحاكم في الصوم (1/432) وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وسكت عنه الذهبي، وحسَّنه الألباني في الإرواء (922).

([35]) رواه ابن خزيمة كتاب: الصوم، باب: استحباب الفطر على الرطب إذا وجد (2065)، وأبو يعلى (3792)، وابن حبان في: صحيحه (الإحسان كتاب الصوم باب الإفطار وتعجيله (3504).

([36]) المنهل العذب المورود (10/79).

([37]) تقدم تخريجه.

([38]) عارضة الأحوذي (3/215).

([39]) نيل الأوطار (4/262).

([40]) الغذاء لا الدواء (126).

([41]) الشرح الممتع (6/442).

([42]) رواه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: القول عند الإفطار (2340)، والنسائي في: السنن الكبرى كتاب الصيام، باب: يقول إذا أفطر (3329) والدارقطني في كتاب: الصيام، باب: القبلة للصائم (2/185) وقال: "تفرد به الحسين بن واقد وإسناده حسن"، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (1/422)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بالحسين بن واقد ومروان بن المقنع"، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب: الصيام، باب ما يقول إذا أفطر (4/239).

([43]) شرح الطيبي على المشكاة (4/155).

([44]) مرقاة المفاتيح (4/488).

([45]) رواه الطبري في جامع البيان (12/394).

([46]) أحكام القرآن (4/207).

([47]) الجامع لأحكام القرآن (7/194).

([48]) علّقه البخاري في أول كتاب اللباس (5/2181)، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنّف"، كتاب اللباس، باب من قال: البس ما شئت ما اخطأه سرف أو مخيلة (5/171)، والإمام أحمد (2/181)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (2558)، والحاكم في المستدرك كتاب الأطعمة (4/125)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".

([49]) فيض القدير (5/46).

([50]) رواه الإمام أحمد (4/132)، والترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه في كتاب الأطعمة باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349)،وابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقائق باب ذكر الأخبار عما يجب على المرء من تـرك الفضـول في قوتـه (674)، والحاكم في المستدرك كتاب الصوم (4/331)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

([51]) جامع العلوم والحكم (2/468) بتصرف يسير.

([52]) تحفة الأحوذي (7/51).

([53]) رواه أبو نعيم في الحلية (2/351).

([54]) رواه أبو نعيم في الحلية (7/36).

([55]) فقه العبادات (ص252) جمع عبد الله الطيار.

([56]) رواه الإمام أحمد (4/114) والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً (807) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه كتاب الصوم باب في ثواب من فطر صائماً (1746)، وابن حبان في صحيحه (الإحسـان كتاب الصوم، باب فضــل الصوم، ذكر تفضل الله جل وعلا بإعطاء المفطر مسلماً مثل أجره (3429).

([57]) عارضة الأحوذي (4/21).

([58]) مرقاة المفاتيح (4/487).

 
.