الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام

.

  شروط الفطر بالمفطرات: ثانيًا: العلم وعدم الجهل:                                                                            قائمة محتويات هذا الملف  

 

ثانياً: العلم وعدم الجهل:

أ‌- تعريف الجهل:

هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه([1]).

ب‌-الأدلة:

1. قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].

قال ابن جرير: "وكذلك للخطأ وجهان:

أحدهما: من وجه ما نهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه.

والآخر منهما: ما كان منه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخِّر صلاةً في يوم غيمٍ وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل . فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربَّه أن لا يؤاخذه به"([2]).

وقال ابن كثير: "أي إنْ تركنا فرضاً على جهة النسيان أو فعلنا حراماً، كذلك أو أخطأنا، أي الصواب في العمل جهلاً منا بوجهه الشرعي"([3]).

فدل على أن الخطأ يطلق وقد يراد به الجهل.

2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) ([4]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولأن الجهل أشد عذراً من النسيان، فإن الناسي قد كان عَلِمَ ثم ذكر، والجاهل لم يعلم أصلاً ؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإفطار، فالجهل أولى.

ولأن الصوم من باب الترك، ومن فعل ما نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة، فيكون وجود الفعل منه كعدمه ؛ فلا يفطر، كالناسي"([5]).

وقال أيضاً: "فإن الإنسان إذا فعل ما نُهي عنه ناسياً أو مخطئاً ؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى"([6]).

وقال الشاطبي: "عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة، فعدُّوا من خالف في الأفعال أو الأقوال جهلاً على حكم الناسي"([7]).

ج- أقسام الجهل:

قال الشيخ ابن عثيمين: "وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:

1.   جهل بالحكم الشرعي: أي لا يدري أن هذا حرام.

2.   جهل بالحال: أي لا يدري أنه في حالٍ يحرم عليه الأكل والشراب، وكلاهما عذر"([8]).

فمثال الأول: عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ} [البقرة:187] عمدت إلى عقالٍ أسود وإلى عقالٍ أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))([9]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ} [البقرة:187]، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطر"([10]).

قال الشيخ ابن عثيمين: "فهذا أخطأ في الحكم في فهم الآية، فالحكم أن الخيط الأبيض بياض النهار والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره، قال له: ((إن وسادك لعريض إن وسع الخيط الأبيض والأسود))، ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله، فعذر"([11]).

ومثال الآخر:

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء ؟ قال: بُدٌّ من قضاءٍ، وقال معمر: سمعت هشاماً يقول: لا أدري أقضوا أم لا)([12]).

قال ابن حجر: " قال ابن المنير في الحاشية: في هذا الحديث أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فأخطئوا فلا حرج عليهم في ذلك"([13]).

د‌-   الجهل بالوقت:

وله صورتان:

الصورة الأولى: إن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، وهذه الصورة فيها قولان لأهل العلم:

القول الأول: عليه قضاء ذلك اليوم، وبه قال الجمهور([14]).

القول الثاني: لا قضاء عليه، وحُكي عن عروة، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وعطاء، وداود بن علي([15]).

والراجح: أنه لا قضاء عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن قيل: فالمخطئ بفطر، مثل من يأكل يظن بقاء الليل، ثم تبين أنه طلع الفجر، أو يأكل يظن غروب الشمس، ثم تبين له أن الشمس لم تغرب.

قيل:  هذا فيه نزاع بين السلف والخلف، والذين فرقوا بين الناسي والمخطئ قالوا: هذا ممكن الاحتراز منه بخلاف النسيان، وقاسوا ذلك على ما إذا أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان، ونقل عن بعض السلف أنه يقضي في مسألة الغروب دون الطلوع ؛ كما لو استمر الشك، والذين قالوا: لا يفطر في الجميع قالوا: حجتنا أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر؛ فإن الله قال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، فجمع بين النسيان والخطأ ؛ ولأن من فعل المحظورات في الحج والصلاة مخطئاً كمن فعلها ناسياً، وقد ثبت في الصحيح([16]) أنهم أفطروا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس، ولم يذكروا في الحديث أنهم أمروا بالقضاء، ولكن هشام بن عروة قال: لا بد من القضاء، وأبوه أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم.

وثبت في الصحيحين([17]) أن طائفة من الصحابة كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم: ((إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل)) ولم ينقل أنه أمرهم بقضاء، وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين، وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر، ثم تبين النهار، فقال: (لا نقضي، فإنا لم  نتجانف الإثم) ([18])، وروي عنه أنه قال: (نقضي)([19]) ؛ ولكن إسناد الأول أثبت، وصح عنه أنه قال: (الخطب يسير)([20]).

فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء، لكن اللفظ لا يدل على ذلك. وفي الجملة فهذا القول أقوى أثراً ونظراً، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس"([21]).

قال ابن القيم: "فلو قدّر تعارض الآثار عن عمر لكان القياس يقتضي سقوط القضاء؛ لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم، ولو أكل ناسياً لصومه لم يجب عليه قضاؤه، والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي، فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد جوازه، وأخطأ في فعله، وقد استويا في أكثر الأحكام، وفي رفع الآثام، فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع؟ وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل والمخطئ أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة"([22]).

الصورة الثانية: إن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، ولم يتبين الأمر، أو أكل شاكًّا في غروب الشمس، ولم يتبين.

فهاهنا صورتان:

أ- لو أكل شاكًّا في طلوع الفجر ولم يتبين، ففي المسألة قولان:

القول الأول: ليس عليه قضاء، وهو قول الجمهور([23]).

القول الثاني: يجب عليه القضاء، وهو قول الإمام مالك([24]).

والراجح: قول الجمهور.

قال ابن قدامة: "قول الله تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ} [الفجر:187]، مدّ الأكل إلى غاية التبين، وقد يكون شاكًّا قبل التبُّين، فلو لزمه القضاء لحرّم عليه الأكل .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكلوا، واشربوا، حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم))([25]) وكان رجلاً أعمى، لا يؤذِّن حتى يقال له: أصحيت، أصبحت، ولأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمان الشك منه ما لم يُعلم يقين زواله"([26]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب، حتى يتبين الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع.

والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف"([27]).

ب- أما إذا أكل شاكَّا في غروب الشمس، ولم يتبين.

فالجمهور على أن عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار([28]).

قال المرداوي: "قوله: وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء، يعني إذا دام شكه، وهذا إجماع([29]).


 

([1] التعريفات للجرجاني مادة "الجهل" (ص108).

([2])  جامع البيان (6/134-135).

([3])  تفسير ابن كثير (1/350).

([4])  تقدم تخريجه.

([5])  كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).

([6] المرجع السابق (1/461).

([7])  الموافقات (3/50).

([8])  الشرح الممتع (6/401).

([9])  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب (وكلوا وأشربوا حتى يتبين ...) رقم (1916)، ومسلم في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ...، رقم (1090).

([10])  كتاب الصيام من شرح العمدة (1/464).

([11])  الشرح الممتع (6/402).

([12])  أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس رقم (1959).

([13])  فتح الباري (4/236).

([14])  انظر: البحر الرائق (2/508)، والتلقين (ص187)، الحاوي الكبير (3/266)، المغني (4/389).

([15])  المغني (4/389)، وانظر: الحاوي الكبير  (3/266)، والمحلى (6/342).

([16])  تقدم تخريجه.

([17])  تقدم تخريجه.

([18])  أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/179) رقم (7395)، وابن أبي شيبة (2/287)، والبيهقـي في الكبـرى (4/217).

([19])  أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7394)، وابن أبي شيبة (2/286)، والبيهقي في الكبرى (4/217).

([20])  أخرجه مالك في الموطأ (1/251) في كتاب الصيام، باب ما جاء في قضاء رمضان والكفارات، وعبد الرزاق في المصنف (4/178) رقم (7392)، والبيهقي في الكبرى (4/217).

([21] مجموع الفتاوى (20/571-573).

([22])  تهذيب السنن (3/237-238)، وانظر: الشرح الممتع (6/410).

([23])  انظر: البحر الرائق (2/509)، والمجموع (6/306)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).

([24])  انظر: البيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزى (ص118).

([25])  أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره رقم (617)، ومسلم في كتاب الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... رقم (1092).

([26])  المغني (4/391).

([27]) مجموع الفتاوى (25/216-217).

([28])  انظر: البحر الرائق (2/510)، والبيان والتحصيل (2/351)، والقوانين الفقهية لابن جزي، والحاوي (3/276)، والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (7/438).

([29])  الإنصاف (3/310)، وانظر الشرح الممتع (6/409).

 
.