الملف العلمي للمولد النبوي

.

  المولد النبوي: رابعاً: أحداث شهر بيع الأول:                                       الصفحة السابقة                     الصفحة التالية

 

رابعاً: أحداث شهر ربيع الأول:

1- مولد النبي صلى الله عليه وسلم:

ولد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن صوم يوم الاثنين: ((ذلك يوم ولدت فيه))، والجمهور على أن ذلك كان في ربيع الأول، واختلفوا أيّ يوم هو منه؟ على أقوال:

1.   ولد في اليوم الثاني من ربيع الأول، وهو قول ابن عبد البر، مستندًا على رواية الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني([1]).

2.   ولد في الثامن من ربيع الأول، وهو قول ابن حزم([2]) ، وفيه رواية مالك عن محمد بن جبير بن مطعم، ونقل ابن عبد البر في الاستيعاب تصحيح أهل الزَّيج([3]) له، وهو المقطوع به عند الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجحه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير.

3.   ولد في العاشر من ربيع الأول، وهو قول الشعبي وأبي جعفر محمد الباقر.

4.   ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، نصّ عليه ابن إسحاق، وفيه رواية ابن أبي  شيبة عن ابن عباس وجابر، وهو المشهور عند الجمهور.

5.   ولد في السابع عشر من ربيع الأول، وهو قول الشيعة.

وخالف الجمهور الزبير بن بكَّار حيث زعم أنّ ذلك كان في رمضان، بناء على أن أول نزول الوحي كان في رمضان بلا خلاف، وكان ذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان([4]).

وليس المقصود التحقق في يوم مولده صلى الله عليه وسلم، وإنّما الإشارة إلى أنّ العلماء لم يتفقوا على أنّ مولده كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول؛ إلا أن القول بأنه كان الثامن من ربيع الأول أقوى وأرجح لعدَّة أمور:

1.   أنه الذي نقله مالك وعقيل ويونس بن يزيد ـ وهم من هم ـ عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم([5]).

2.   أنّ هذه الرواية أكدتها حسابات الفلكيّين الدقيقة، كما نقل ذلك عنهم ابن عبد البر([6]).

3.   أنّ هذا القول رجَّحه جمع من أهل العلم المحققون منهم، كابن حزم والحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي والحافظ ابن دحيَّة في كتابه (التنوير في مولد البشير)، وهو أول كتاب صُنِّف في استحباب المولد.

ولكن وقع أيضاً في شهر ربيع الأول حدثان عظيمان آخران، هما أهمّ من حدث المولد ألا وهما: موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهجرته إلى المدينة.

2- موت النبي صلى الله عليه وسلم:

أمّا موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو حدث جلل عظيم، ولا يختلف أنّ ذلك كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، والجمهور على أنّه كان في اليوم الثاني عشر منه، يقول ابن رجب: "ولمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهِش فخولط، ومنهم من أُقْعِد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية"([7]).

قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي؛ فإنّها أعظم المصائب))([8]).

قال القرطبي: "وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انقطع الوحي، وماتت النبوَّة، وكان أوّل ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير، وأول نقصانه"([9]).

فأشار رحمه الله إلى أمر عظيم انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو انقطاع الوحي الذي كان يتنَزل من يوم أهبط آدم إلى الأرض؛ فانقطع بموته صلى الله عليه وسلم.

دخل أبو بكر وعمر على أم أيمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيكِ؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحيَ انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان([10]).

لقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة مطلقًا، وكان له أثره العظيم على نفوس الصحابة وحالهم؛ حتى صدق فيهم وصف عائشة رضي الله عنها: صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم.

يقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلَّ شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا([11]).

فأيُّ احتفال يكون في يوم رزئت فيه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها، يقول الفاكهاني: "هذا مع أنّ الشهر الذي وُلِد فيه صلى الله عليه وسلم هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه".

3- هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:

الهجرة النبويَّة حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية، لأنها كانت الخطوة الأولى في بناء الدولة الإسلامية؛ لذلك حرصت قريش أن لا يتمّ ذلك، وجهدت في محاولة منع النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى المدينة، وحدث الهجرة أهمُّ عند الصحابة رضوان الله عليهم من حادث مولده صلى الله عليه وسلم بدليل أنهم حينما أرادوا أن يجعلوا للمسلمين تأريخًا خاصًا بهم، نظروا في أعظم الأحداث التي يمكن أن يؤرخوا بها، فخيَّرهم الفاروق عمر بين حادثتين لا ثالث لهما، وهما الهجرة والبعثة، ولم يعتبروا مولده صلى الله عليه وسلم من الأهميَّة التي تجعله حدثًا يؤرخون به، ذلك لأن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت عاديّة، كسائر البشر، وكلُ الروايات التي تذكر الأحداث التي وقعت عند ولادته وردت بأسانيد ساقطة، وأما رؤية أم النبي صلى الله عليه وسلم لنور خرج منها أضاء لها قصور بصرى فهي رؤيا منامية، رأت ذلك حين حملت به صلى الله عليه وسلم.

فهل كان الصحابة بفعلهم هذا لم يكونوا معظمين للنبي صلى الله عليه وسلم؟!

هذه الأحداث الثلاثة وقعت في شهر ربيع الأول، ومع ذلك لم يحدث للصحابة فيه أيَّ عبادة دينية تذكرهم بها؛ لأنهم فهموا أنّ كمال الاقتداء والمحبة إنما هو في الاتباع، جيل فريد ربَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم على التمسك بشعائر الدين؛ فلم يزيدوا عليه قدر أُنملة، فأين من يدَّعي الاقتداء والمحبة من أصحاب الموالد من هديهم؟!


 


([1])  الاستيعاب (1/59).

([2])  في جوامع السيرة له (ص  7): (لثمانٍ بقين من ربيع الأول)، فلعلَّ (بقين) تصحفت عن (مضين).

([3])  يعني أصحاب الفلك، ووقع في بعض طبعات البداية والنهاية: (أصحاب التاريخ) وهو خطأ، انظر الطبعة التي بتحقيق التركي (3/373).

([4])  هذه خلاصة الأقوال التي ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (2/242-243)

([5])  وقد مال الشيخ ناصر الدين الألباني إلى هذا القول، معتمدًا على تصحيحه لهذا الأثر في صحيح السيرة النبوية (ص 13).

([6])  انظر: البداية والنهاية طبعة التركي (3/373).

([7])  لطائف المعارف (ص 114).

([8])  أخرجه الدارمي في سننه (84)، وصححه الألباني في الصحيحة (1106).

([9])  تفسير القرطبي (2/176).

([10])  أخرجه مسلم (103).

([11])  أخرجه الترمذي (3618) وقال: "هذا الحديث غريب صحيح"، وابن ماجه (1631)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3861).

 

.