.

  الحاكمية : أولاً: المعاصي :                              الصفحة السابقة               الصفحة التالية  

 

أولاً:  المعاصي:

أ- تعريفها:

لغة:

قال أبو عبيد: "وأصل العصا الاجتماع والائتلاف. ومنه قيل للخوارج: قد شقوا عصا المسلمين: أي فرّقوا جماعتهم"[1].

وقال ابن منظور: "العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربه إذا خالف أمره. وعصى فلانٌ أميره يعصيه عصياً وعصياناً ومعصية إذا لم يطعه فهو عاص وعَصِيّ"[2].

وشرعاً:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المعصية هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف أمر الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه فقد عصى"[3].

وقيل: "المعاصي: هي ترك المأمورات، وفعل المحظورات، أو ترك ما أوجب وفُرض من كتابه أو على لسان رسول صلى الله عليه وسلم وارتكاب ما نهى الله عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال الظاهرة أو الباطنة"[4].

ب- ألفاظ تدخل في معنى العصيان:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لفظ (المعصية) و(الفسوق) و(الكفر): فإذا أطلقت المعصية لله ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق، كقوله: {وَمَن يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَـٰتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هوداً معصية تكذيب لجنس الرسل، فكانت المعصية لجنس الرسل"[5].

وقد جاء معنى العصيان بألفاظٍ كثيرة في الكتاب والسنة، ومنها في القرآن:

1- الذنب: قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت:40].

قال الراغب رحمه الله: "والذنب في الأصل: الأخذ بذنب الشيء، ويُستعمل في كل فعلٍ يُستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب تبعة، وعقوبة اعبتاراً لما يحصل من عاقبته"[6].

2- الخطيئة: قال تعالى عن إخوة يوسف: {إِنَّا كُنَّا خَـٰطِئِينَ} [يوسف:97].

3- السيئة: قال تعالى: {إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ} [هود:114].

قال الراغب الأصفهاني: "والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في نفسه"[7].

4- الحُوب: قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2].

قال الراغب الأصفهاني: "الحُوب: الإثم"[8].

5- الإثم: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْى} [الأعراف:33].

قال الراغب رحمه الله: "الإثم والآثام: اسمٌ للأفعال المبطئة عن الثواب"[9].

والأثيم: "الكثير ركوب الإثم"[10].

6- الفسوق والعصيان: قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ} [الحجرات:7].

قال الراغب رحمه الله: "فسق فلانٌ: خرج عن حجر الشرع"[11].

7- الفساد: قال جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} [المائدة:32].

قال الراغب رحمه الله: "الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً، ويُضادّه الصلاح"[12].

8- العُتوّ: قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ} [الأعراف:166].

قال الراغب رحمه الله: "العتُوّ: النبوّ عن الطاعة. يُقال: عتا يعتو عتواً وعتياً"[13].

9- الإصر: قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].

قال ابن سيده رحمه الله: "الإصر: الذنب والثّقل"[14].

ج- أسباب الوقوع في المعاصي:

1- الابتلاء بالخير والشرّ:

قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ} يقول: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال)[15].

2- الابتلاء بالمال والولد:

قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي: اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه"[16].

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحدٌ إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلاّت الفتن)[17].

3- فتنة الشرك وهي أشرّ الفتن وأطغاها وأخبثها:

قال الله عز وجل: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال:39]، فبيّن تعالى بأن الدين غير الفتنة وهما متغايران[18].

4- فتنة العشق والافتتان بالنساء والمردان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم:

قال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة:49].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرجال من النساء))[19].

وكان الجدُّ بن قيس[20] يتهرّب من القتال بهذا العذر، قال عنه ابن القيم رحمه الله: "فالفتنة التي فرّ منها بزعمه هي فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة"[21].

أما الفتنة بالأمرد فإنها أشدّ.

قال الهيتمي رحمه الله: "وحرّم كثير من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيت أو دكان كالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلا رجلٌ بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما))[22] بل في المرد من يفوق النساء بحسنه، فالفتنة به أعظم، ولأنه يمكن في حقه من الشرّ ما لا يمكن في حق النساء"[23].

قال الحسن بن ذكوان: "لا تجالس أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً كصور العذارى، وهم أشدّ فتنةً من النساء"[24].

ودخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه صبيٌ حسن الوجه، فقال: أخرجوه عني، أخرجوه عني، فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل صبي بضعة عشر شيطاناً[25].

5- الفتنة بالمال:

عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))[26].

والمال والأولاد سبب لنسيان ذكر الله تعالى: قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر:19]: "أي: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح الذي ينفعكم في معادكم. فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم كما قال تعالى: {أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} [المنافقون:9]"[27].

6- شبهات أهل البدع:

قال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها"[28]؛ ذلك لأن صاحبها يظن نفسه على الحق فلا يتوب أبداً، أو لأن البدعة أكبر من كبائر أهل السنة.

لذلك تواتر عن أئمة السلف في التحذير من البدعة والمبتدع. قال المرّوذي: قلت لأبي عبد الله يعني إمامنا الإمام أحمد بن حنبل - ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح في وجهه. وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس؛ أليس إنما هو لنفسه؟ قلت: بلى. قال: فإذا تكلم. كان له ولغيره. يتكلم أفضل"[29].

د- أقسام الذنوب والمعاصي:

1- تقسيمها من حيث من وقعت في حقه:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذنوب ثلاثة أقسام:

أحدها: ما فيه ظلم الناس: كالظلم بأخذ الأموال، ومنع الحقوق والحسد، ونحو ذلك.

والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعدّ ضررهما.

والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولّي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرّهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان"[30].

2- تقسيمها من حيث نوعها:

ويمكن أن تقسّم باعتبارٍ آخر وهو:

1- معاصي في الاعتقاد كالشرك والنفاق وغيرهما.

2- معاصي في الأخلاق كالزنى وشرب الخمر وغيرهما.

3- معاصي في العبادات كترك الصلاة أو التهاون بها، ومنع الزكاة وغيرها.

4- معاصي في المعاملات كعقود الربا والرشوة وشهادة الزور والسرقة وغيرها[31].

3- تقسيمها من حيث عظمها:

وجمهور أهل السنة يرون أن المعاصي تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر.

قال ابن القيم رحمه الله: "والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، بنصّ القرآن والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبار"[32].

وأنكرت طائفة تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر، واستدلوا على قولهم هذا بأن كل مخالفة بالنسبة لجلال الله وعظمته كبيرة، فكرهوا تسمية أي معصية صغيرة؛ لأنها إلى كبرياء وعظمة الله كبيرة[33]. ويؤيد هذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!)[34].

وقول جمهور أهل السنة أصوب، إذ دلّ الكتاب عليه، قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ} [النساء:31]، ففي هذه الآية بيان أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر[35].

وقوله جل جلاله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ} [النجم:32] في الآية استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب، ومحقرات الأعمال، فهو استثناء من عامة الكبائر[36].

ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات بينهن إن اجتنبت الكبائر)) وفي رواية ((ما لم تغش الكبائر))[37].

يقول الغزالي رحمه الله: "لا يليق إنكار الفرْق بين الكبائر والصغائر، وقد عُرف من مدارك الشرع"[38].


 

[1] انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/77).

[2] لسان العرب (4/2981) مادة: عصى.

[3] مجموع الفتاوى (8/269).

[4] المعاصي وآثارها لحامد المصلح (ص 30).

[5] مجموع الفتاوى (7/59).

[6] مفردات الراغب (ص 331). وانظر المخصص لابن سيده (4/78).

[7] مفردات الراغب (ص 287).

[8] مفردات الراغب ( 261).

[9] مفردات الراغب (ص 63).

[10] المخصص لابن سيده (4/80).

[11] مفردات الراغب (ص 637).

[12] مفردات الراغب (ص 636).

[13] مفردات الراغب (ص 546).

[14] المخصص لابن سيده (4/80).

[15] جامع البيان (17/25).

[16] تفسير القرآن العظيم (4/376).

[17] رواه الطبري في تفسيره (9/219)، وانظر: والتمهيد لابن عبد البر (12/186) وإغاثة اللهفان لابن القيم (2/160).

[18] انظر: المعاصي وآثارها (ص 56).

[19] رواه البخاري في النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء (2740).

[20] انظر ترجمته في الإصابة (1/238-239).

[21] إغاثة اللهفان (2/158).

[22] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/326) وقال: رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف جداً، وفيه توثيق. وذكره المنذري في الترغيب (3/39) وقال: حديث غريب رواه الطبراني. والحديث رواه الترمذي بلفظ: (لا يخلونّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات (1171) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/343).

[23] الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).

[24] انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).

[25] انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/311).

[26] رواه البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3158) ومسلم في الزهد والرقائق برقم (2961).

[27] تفسير القرآن العظيم (4/342).

[28] رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/132). وانظر: مجموع الفتاوى (11/472).

[29] طبقات الحنابلة (2/216).

[30] الاستقامة لابن تيمية (2/245-246)، وانظر: مجموع الفتاوى (28/145).

[31] المعاصي وآثارها (ص 39).

[32] مدارج السالكين (1/342).

[33] انظر: الزواجر (1/13)، وشرح صحيح مسلم (2/84-85).

[34] رواه البخاري في الرقاق باب ما يتقى من محقرات الذنوب (6492).

[35] انظر: المعاصي وآثارها (ص 35).

[36] المعاصي وآثارها (ص 35).

[37] رواه مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة مكفرات ما بينهن (233).

[38] انظر: الزواجر (1/14).

 

.