الملف العلمي للهجرة

.

   الهجرة: خامساً: الهجرة في الأمم السابقة:                                                 الصفحة السابقة              الصفحة التالية

 

خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة:

لقد حكى لنا القرآن الكريم هجرة خليل الله إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: {فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّى إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، أي آمن بإبراهيم لوط، وقال إبراهيم: إني مهاجر دار قومي المشركين إلى ربي إلى الشام، فهاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام، وهو ابن خمس وسبعين سنة ومعه لوط وسارة([1]).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ([2]).

قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لهذا الحديث: "فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم بخلاف من يأتي إليه ثم يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم تعدل مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة"([3]).

وكان معروفاً أيضاً في الأمم السابقة الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجلٍ عالمٍ. فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؟ فإن بها أُناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم: فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) ([4]).

قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"([5]).

وقال ابن حجر رحمه الله: "فيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه، ولهذا قال له الأخير: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها"([6]).


 


([1])   انظر: تفسير الطبري (20/142-143) وتفسير القرطبي (13/339-340) وزاد المسير (6/268) وتفسير السمعاني (4/176).

([2])   أخرجه أبو داود [2482]، وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص 79).

([3])   مناقب الشام وأهله (ص80)، وانظر: المجموع (27/ 509).

([4])   أخرجه البخاري [3470]،  ومسلم [2766] واللفظ له.

([5])   شرح صحيح مسلم (17/82).

([6])   فتح الباري (6/517-518).

 
.