موسوعة البحـوث المنــبرية

.

  ما يتعلق بالمسافر من أحكام الطهارة: أولاً: المسح على الخفين:                   الصفحة السابقة                 الصفحة التالية   

 

أولاً: المسح على الخفين:

المسح على الخفين مشروع في حق المسافر، وكذلك في حق المقيم، ودليل مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ} [المائدة: 6]، قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب: {وأرجلَكم} بالنصب، وقرأ الباقون: {وأرجلِكم} بالخفض([1]).

قال بعض أهل العلم: "إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدًا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفّان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يصح أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل، والحال التي تمسح فيه"، قال القرطبي بعدما نقل هذا الكلام: "وهذا حسن"([2]).

وقال ابن تيمية رحمه الله: "فقوله تعالى: {وأرجلَكم} بالنصب خطاب لمن رجله في غير الخفين المشروطين، وقراءة الخفض خطاب للابس الخفاف"([3]).

وأما السنة: فقد تواتر المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر رحمه الله: "وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وفي ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين"([4]).

ولذا مثَّل به بعضهم للمتواتر فقال:

مما تواتر حديث من كذب         ومن بنى لله بيتا واحتسب

ورؤية شفـاعة والحوض          ومسح خفين وهذي بعض

فمن أحاديثه ما رواه الشيخان عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا.

قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة([5]).

أي أن جريرًا أسلم بعد نزول آية الوضوء التي في سورة المائدة، وهي تفيد وجوب غسل الرجلين، فيكون حديثه دالاً على أن المسح على الخفين محكم غير منسوخ، وأن الأمر بغسل الرجلين في الآية هو لغير صاحب الخف، أما صاحب الخف ففرضه المسح عليهما.

وأما الإجماع: فقد قال النووي رحمه الله: "أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو غيرها"([6]).

ولذا ذكره بعض أئمة السنة ممن صنف في العقيدة فاعتبروا القول بالمسح على الخفين من أصول أهل السنة، وترك المسح عليهما لاعتقاد عدم الإجزاء من علامات أهل البدع.

للمسح على الخفين شروط يجب مراعاتها:

أول هذه الشروط: أن يكون لَبِسهما وهو على طهارة.

وثانيها: أن يكونا طاهرين غيرَ نجسين.

وثالثها: أن يكون مسْحُهما في الحدث الأصغر لا في الجنابة أو ما يوجب الغسل.

ورابعها: أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعًا، وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم([7])، يعني في المسح على الخفين.

وتبدأ هذه المدة من أول مسح بعد الحدث، وتنتهي بالنسبة للمسافر بمُضيِّ اثنتين وسبعين ساعة، فلو أن مسافرًا توضأ لصلاة الفجر يوم الأحد ثم لبس خفيه، وبقي على طهارته حتى صلى العشاء من ليلة الاثنين ونام، ثم قام لصلاة الفجر يوم الاثنين، ومسح على خفيه في الساعة الخامسة صباحًا، فإن ابتداء مدة المسح يكون من هذا الحين إلى الساعة الخامسة صباحًا من يوم الخميس، فإذا قام يوم الخميس ليصلي صلاة الفجر ومسح على خفيه قبل الساعة الخامسة صباحًا، فإن له أن يصلي الفجر، ويصلي أيضاً ما شاء من الفرائض والنوافل ما دام على طهارته، فإن وضوءه لا ينتقض بتمام المدة على القول الراجح، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت الطهارة، وإنما وقت المسح، فإذا تمت المدة فلا مسح، ولكن إذا كان على طهارة فطهارته باقية، لأن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يرتفع إلا بدليل شرعي، ولا دليل على انتقاض الوضوء بتمام مدة المسح، ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يتبين زواله([8]).

فهذا له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون التغير قبل الحدث:

بأن يلبس الخفين وهو مقيم، ثم يسافر قبل الحدث، فهذا يمسح مسح مسافر باتفاق العلماء.

أو بأن يلبس الخفين وهو مسافر، ثم يقدم محل إقامته قبل أن يحدث، فهذا يمسح مسح مقيم.

الحالة الثانية: أن يكون التغير بعد الحدث وقبل المسح:

بأن يلبس الخفين ثم يحدث وهو مقيم ثم يسافر قبل أن يمسح، فهذا يمسح مسح مسافر، قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من لم يمسح حتى سافر أنه يتم مسح المسافر"([9]).

أو بأن يلبس الخفين ثم يحدث وهو مسافر، ثم يقدم بلده قبل أن يمسح، فهذا يمسح مسح مقيم، قال الشيخ ابن عثيمين: "لم أر في ذلك خلافًا"([10]).

الحالة الثالثة: أن يكون التغير بعد الحدث والمسح:

بأن يلبس الخفين ويمسح عليهما مقيمًا ثم يسافر، فإن انتهت مدة المسح قبل أن يسافر وجب عليه عند الوضوء خلعهما وغسل الرجلين، وإن كانت مدة مسح المقيم باقية فذهب جمهور العلماء إلى أنه يتم مسح مقيم، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه يتم مسح مسافر، وهو الرواية الأخيرة عن أحمد، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

أو بأن يلبس الخفين ويمسح عليهما وهو مسافر ثم يقدم بلده بعد ذلك، فإن كانت مدة مسح المقيم قد انتهت بأن يكون مسح يومًا وليلة فصاعدًا فليس له المسح، وإن كانت باقية بأن يكون قد مسح أقل من يوم وليلة أتم مسح مقيم. قال ابن قدامة: "لا أعلم فيه مخالفًا"([11]).

قال ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم ممن يقول بالتحديد في المسح على الخفين على أن من مسح ثم قدم الحضر، خلع نعليه إن كان مسح يومًا وليلة مسافرًا، ثم قدم فأقام، أن له ما للمقيم، وإن كان مسح في السفر أقل من يوم وليلة، مسح بعد قدومه تمام يوم وليلة"([12]).


 


([1]) القراءات العشر المتواترة للشيخ محمد كريِّم راجح (ص 108).

([2]) الجامع لأحكام القرآن (6/93)، وانظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام (2/ 522 ـ 529) للدكتور محمد بن عمر بازمول.

([3]) شرح العمدة (1/248).

([4]) فتح الباري (1/306).

([5]) أخرجه البخاري في الصلاة [387]، ومسلم في الطهارة [272].

([6]) شرح صحيح مسلم (3/ 164).

([7]) أخرجه مسلم في الطهارة [276].

([8]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، جمع وإعداد حمود عبد الله المسطر (ص 11 ـ 12). وانظر: تمام النصح في أحكام المسح للألباني (ص 89 ـ93) في آخر كتاب المسح على الجوربين للقاسمي.

([9]) المغني (1/370).

([10]) رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 17).

([11]) المغني (1/370)، وانظر: رسائل وفتاوى في المسح على الخفين والتيمم (ص 16 ـ 18، 21).

([12]) الأوسط (1/446).

 

.