الملف العلمي للأحداث الراهنة

.

  العبودية: خامساً: فضل العبودية ومكانتها:             الصفحة السابقة                الصفحة التالية                 (الصفحة الرئيسة)

 

خامساً: فضل العبودية ومكانتها:

والمراد بالعبودية الممدوحة العبودية الاختيارية التي يوفق الله لها من يشاء من عباده بحكمته ورحمته، فمن فضائلها:

1-  أنها الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له، والتي من أجلها خلق سبحانه الخلق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

قال القرطبي: "أي: ليذلوا ويخضعوا لي"[1].

وقيل: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقيل: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها[2].

وقال السعدي: "هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله تعالى المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[3].

2-  أنها أول أمرٍ أمر الله به في كتابه العزيز وأهمه وأعظمه قال تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].

قال القرطبي: "قوله تعالى: {ٱعْبُدُواْ} أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّدة إذا كانت موطوءة بالأقدام... والعبادة الطاعة، والتعبد التنسّك"[4].

وهو أمر واجب لازم حتى الممات قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ} [الحجر: 99].

3- أن الله وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف الحالات، فقال في حادثة الإسراء: {سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأقْصَى ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وقال في حالة الإيحاء: {فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ} [النجم:10]، وقال في مجال الدعوة: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19]، وقال في ميدان التحدي: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} [البقرة:23].

قال القرطبي في تفسير آية الإسراء: "قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية، قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعاً للأمة"[5].

وهي المنزلة التي رضيها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله))[6].

4- أنها وصف رسل الله وأنبيائه، ونعت ملائكته وأوليائه، قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19، 20]، وقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء:172، 173].

قال القرطبي: "قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ} أي لن يأنف ولن يحتشم {أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} أي من أن يكون... {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} أي يأنف {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} فلا يفعلها {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ}... {جَمِيعاً} فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا... أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها"[7].

وقال سبحانه: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6]، وقال: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان:63].

قال القرطبي: "أضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم... فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]"[8].

وقال في وصف ملائكته: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26-28].

وقال في وصف عيسى عليه السلام: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـٰهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْرٰءيلَ} [الزخرف:59].

وقال تعالى: {وَٱذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى ٱلأيْدِى وَٱلأبْصَـٰرِ * إِنَّا أَخْلَصْنٰهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأخْيَارِ * وَٱذْكُرْ إِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ ٱلأخْيَارِ} [ص:45-48].

وقال عن داود: {وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].

وقال عن سليمان: {نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30].

وقال عن أيوب: {وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ} [ص:41].

وقال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3].

5- أنها من محاسن الفضائل وكرائم الخصائل التي أمر الله تعالى بها جميع الأمم، قال تعالى: {وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36].

قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار لمن له الحُكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره"[9].

6-  أنها غاية دعوة جميع الرسل، فبها أرسل الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب، قال نوح لقومه: {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].

قال ابن تيمية: "وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله"[10].

7- أنها الحرز المتين والحصن الحصين من تزيين الشيطان وإغوائه، قال تعالى عن إبليس: {رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39، 40]، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [ص:82، 83]، وقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} [الحجر:42]، وقال في حق يوسف: {كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].

8-  أنها سبيل الحرية والفكاك من رق الدنيا الفانية، وطريقُ الخلاص من هلاك الآخرة الباقية.

قال الحكيم الترمذي: "إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران"[11].

9-  أن بها كمال العبد، وتمام إنسانيته.

قال ابن تيمية: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته"[12].

10-  أنه لا يحصل الاستغناء التام والحرية التامة المطلقة إلا بالعبودية لله تعالى.

قال شيخ الإسلام: "ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلّما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك"[13].

11-  أن بها اللذة الحقيقية والسعادة الأبدية.

قال شيخ الإسلام: "إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب"[14].

12-  أنها البند العظيم الذي أمر الله أن يدعو إليه أهلُ الإسلام أهلَ الكتاب، فقال تعالى: {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64].

13- أنها سبيلٌ لوقاية الله وكفايته، قال تعالى: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].


[1] الجامع لأحكام القرآن (17/56).

[2] انظر: تفسير ابن كثير (4/238).

[3] تفسير الكريم الرحمن (7/181).

[4] الجامع لأحكام القرآن (1/225-226).

[5] الجامع لأحكام القرآن (10/205).

[6] أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[7] الجامع لأحكام القرآن (6/26-27).

[8] الجامع لأحكام القرآن (13/67-68).

[9] الجامع لأحكام القرآن (5/180).

[10] العبودية (ص95).

[11] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/156).

[12] العبودية (ص91).

[13] العبودية (ص140-141).

[14] العبودية (ص119).

 

.