عنوان الخطبة

انحرافات في مفهوم العبودية

اسم الخطيب

خالد بن عبد الله المصلح

رقم الخطيب

204

رقم الخطبة

3595

اسم المسجد

جامع العليا

تاريخ الخطبة

 

ملخص الخطبة

1- فضل العبودية ومكانتها. 2- أركان العبودية. 3- شمولية العبودية لجميع مناحي الحياة. 4- تعريف العبودية وبيان شروطها. 5- مفاهيم خاطئة حول مفهوم العبودية.

الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله تعالى قد خلقكم ـ إنسكم وجنكم ـ لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. فعبادة الله تعالى وإفرادها لله وحده لا شريك له هي الغاية القصوى والمطلب الأسمى والمقصود الأعلى من الخلق كما دلت عليه الآية، فإن الله تعالى ذكر ذلك بالنفي والاستثناء اللذين هما أقوى صور الحصر والقصر، فنفى أي غاية لوجود الإنس والجن غيرَ عبادته سبحانه.

وهو تعالى ذكره وتقدست أسماؤه لما خلقنا لذلك لم يتركنا هملاً بلا بيان ولا توضيح للعبادة التي خلقنا لها وأمرنا بها، بل بين لنا معنى العبودية لله سبحانه ووضح سبيل ذلك، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، وإلى عبادته وحده داعين، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، فكل رسول جاء إلى قومه كان أول ما يقول لهم: يا قوم، اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه.

وهذه الدعوة التي جاءت الرسل بها أمرٌ فطر الله تعالى الخلق عليه، ومع ذلك انقسم الخلق حيال دعوة الرسل إلى قسمين، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]. فمن الناس من وفقه الله إلى الإيمان، فهو على الفطرة في عبوديته للواحد الديان، ومن الناس من ابتلي بالحرمان فاجتاله الشيطان، فوقع في عبودية الأصنام والأوثان.

أيها المؤمنون، إن العبودية لله تعالى التي هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وسرور النفوس مبنية على ركنين عظيمين لا تصح إلا بهما، الأول: محبة الله تعالى، والثاني: الذل له سبحانه.

قال ابن القيم رحمه الله:

وعبـادة الرحمن غاية حبه      مع ذل عابده هما قطبان

فكلما امتلأ قلب العبد لله تعالى حبًا، وله سبحانه ذلاً وتعظيمًا، ولأوامره وشرعه انقيادًا وعملاً، كملت فيه العبودية لله تعالى.

وهذه العبودية التي دعت إليها الرسل أمر عام واسع رحب، يضرب برواقه على جميع مناحي الحياة وشؤونها، ويتبين هذا واضحًا جليًا من خلال إجالة النظر في آيات الكتاب الحكيم، ومن خلال مطالعة دواوين السنة، فإن الله تعالى خاطب عباده المؤمنين بالأمر والنهي في أمورٍ كثيرة تتعلق بمعاشهم وحياتهم.

ويمكن أن يتضح شمول العبودية لجميع مناحي الحياة من تعريف أهل العلم والفقه لمعنى العبادة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة".

فعلى هذا تكون العبادة شاملة للأعمال القلبية كمحبة الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له والصبر لحكمه، وهي شاملة للأركان الشعائرية من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتطوعاتها وما يتبعها، وهي أيضًا شاملة للعلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية والأخلاق والفضائل التعاملية، وهي تشمل أيضًا الأحكام القضائية التشريعية والشؤون التجارية والاقتصادية والسياسية.

فالدينونة لله تعالى والعبودية له سبحانه دائرة واسعة تحيط بجميع جوانب الحياة وفروعها، من آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم.

وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى، بل وعرفه المشركون والمخالفون لدعوة الإسلام في ذلك الوقت، ففي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة ـ أي: قضاء الحاجة ـ، فقال: أجل نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: ((لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار))[1].

والمتأمل في سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم يرى ويشهد أنهم كانوا يراجعون النبي في كثير من الأحوال وفي أكثر الأحيان، وأنهم كانوا يتوقفون في انتظار الوحي في كثير من قضاياهم وشؤونهم، إلا أنه مع مضي الأوقات وفشو الجهالات وقلة العلماء والدعاة اعترى مفهوم العبودية كثيرٌ من التغيير والتبديل والانحراف، حتى أصبحنا نرى ونسمع من يدعي الانتساب إلى الإسلام ثم إنه لا يرى ضيرًا ولا حرجًا أن يصرف أنواعًا من العبادات القلبية أو العملية لغير الله تعالى؛ إما بحجة أنهم أولياء الله أو أنهم وسطاء، أو أنهم وسائل أو غيرُ ذلك من الشبه.

وأصبحنا نرى ونشاهد من وحد الله بالقصد فلم يعبد إلا الله تعالى، لكنه لم يتابع النبي فيما جاء به، فعبد الله بهواه وما تمليه عليه رغبته.

وكلا الفريقين ضل الطريق وأخطأ السبيل؛ فإن الله تعالى أمرنا بعبادته وحده سبحانه فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وأمرنا أيضًا أن لا نعبده إلا بما شرع، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) رواه البخاري ومسلم[2].

فالواجب على العبد الراغب في تحقيق عبوديته لله تعالى أن يطهر قلبه ويصفيه ويخليه من كل شائبة شرك أو قصد لغير الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه سبحانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم[3]. وعليه أيضًا أن يجتهد في متابعة النبي واقتفاء أثره، فإن خير الهدي هدي محمد ، وعلى حسب متابعة العبد للنبي ينال من انشراح الصدر ورفع الذكر وكثرة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.

فعليكم ـ عباد الله ـ بالإخلاص والمتابعة للنبي ، فليست العبرة بكثرة العمل مع التفريط في الإخلاص لله ومتابعة الرسول، بل العبرة بحسن العمل، قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة".

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الإخلاص والمتابعة، وأن يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



[1] أخرجه مسلم في الطهارة (262).

[2] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[3] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).           

الخطبة الثانية

أما بعد: فإنه قد تقدم لنا في الخطبة الأولى صورتان من صور الانحراف الذي طرأ على الأمة في مفهوم العبودية لله تعالى.

ومن صور الانحراف في مفهوم العبودية لله تعالى أن بعض من أعمى الله بصيرتهم وأضلهم عن سواء السبيل تصوروا أو صُوّر لهم أن عبادة الله تعالى هي تلك الأقوال والأعمال التي تضبط علاقة العبد بربه من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو تلاوة وذكر فحسب، أما ما عدا ذلك من الأمور فليس لها بالعبادة أو العبودية لله تعالى صلة، بل هي موكولة إلى الناس يفعلون فيها ما يشاؤون ويحكمون ما يريدون. ولا شك أن هذا فهم مبتور مغلوط دلّت نصوص الكتاب والسنة على بطلانه، بل دل العقل على ضعفه وضلاله؛ إذ كيف يستقيم في الأذهان أو يصح عند أولي العقول والأبصار أن يعلم النبي المختار أمته تفاصيل ودقائق آداب قضاء الحاجة ثم يعرض ويترك تعليمهم الأمور العظام والقضايا الجسام التي بها تستقيم الحياة في المدن والأمصار؟! بل لو قال قائل: إن هذا فيه أعظم التنقيص والإزراء بالشرائع والأنبياء لما جانب رأي الألباء والعلماء.

وقد خلّف هذا الفهم المغلوط انحرافاتٍ خطيرةً توشك أن تخرج بأصحابه عن سبيل أهل الإسلام.

ومن هذه الانحرافات الجسام أننا سمعنا من يقول ويكتب: إن الدين والعبودية لله ليس لها دخل في التجارة أو الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من مجالات الحياة، بل آل الأمر بكثير من أصحاب هذا الفكر الضال المنحرف أن فصلوا الدين عن الحياة، وجعلوا الكتاب والسنة اللذين هما سبيل النجاة ينظمان علاقة العبد بربه ولا يتجاوزون بهما هذا الحد، بل لم يقتصر الأمرُ على ذلك فرأينا أصحاب هذا الانحراف الذين ضرب النفاق قلوبهم بجرانه ينكرون على كل من يصدر عن السنة والقرآن في سياساته أو اقتصادياته أو أحكامه أو أنظمته أو سائر شؤون حياته، ويقذفون بأقذع الأسماء ويصفون بأبشع الأوصاف كُل من دعا إلى تحكيم الكتاب و السنة، فتارة يسمون المتمسكين بالكتاب والسنة في دق الأمر وجليله رجعيين، وتارة ظلاميين، وتارة أصوليين، وتارة متطرفين أو إرهابيين، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

أيها المؤمنون، احذروا هؤلاء المضللين المنافقين؛ فإنهم من أعظم ما يفسد الأديان ويخرب الأوطان، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم فهما سفينة النجاة، وقد أمر الله بذلك فقال لنبيه : فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، وجاء عن النبي من طرق عديدة أنه قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله))[1].

ولا يخدعنكم هؤلاء المنحرفون بألاعيبهم وأساليبهم وتضليلاتهم، فهم أشبه من ينطبق عليهم وصف النبي الذي رواه حذيفة رضي الله عنه عن أهل الشر الذين يكونون آخر الزمان: ((دعاة ضلالة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا))[2].

فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاهتداء.



[1] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (128).

[2] أخرجه البخاري في المناقب (3606).