.

اليوم م الموافق ‏02/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

خلق العفو والصفح

4334

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

سعود بن إبراهيم الشريم

مكة المكرمة

20/3/1426

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل سلامة الصدر. 2- مصدر العزة والرفعة. 3- فضل العفو. 4- حضّ الشريعة على العفو. 5- العفو شجاعة وقوة. 6- ذم التشفّي والانتقام. 7- بين العفو والصفح. 8- فضل الصفح.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدَى هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.

ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّما هذه الحياة الدنيا متاع، وأنَّ الآخرة هي دار القرار، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

أيّها الناس، سلامة صدرِ المرء من الغشَش وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس والتشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة؛ بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه البسيطة وهو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات والغِلظة والفَظاظَة و يُفرِزُ بين الحين والآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه وضيق عَطَنه؟!

ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة وسبُلها والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً والتطلُّع إلى الاصطباغِ بها أو بشيءٍ منها مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها، مع كثرَتِها وتنوُّع ضُروبها، غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه وقلَّة المؤونةِ في تحصيله دون إجلابٍ عليه بخيلٍ ولا رَجلٍ؛ إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة وزمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها واستيفاءِ كلِّ حقوقِها، يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات وحبِّ الأخذ دون الإعطاءِ.

هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة، فطِيبُ النفس وحسنُ الظنّ بالآخرين وقَبول الاعتذار وإقالةُ العثرة وكَظم الغيظ والعفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض. ومَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛ لأنَّ النبيَّ قال: ((ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه)) رواه مسلم[1]، وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره))[2]. فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها.

إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة، كيف لا وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]؟! والكاظِمونَ الغيظَ ـ عباد الله ـ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس، بل يكفّون عنهم شرَّهم، ويحتسِبون ذلك عند الله عز وجل، أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم، فلا يبقَى في أنفِسهم موجِدَة على أحدٍ. ومن كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان، وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:134]. ألا إنَّ مَن أحسن فقد أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله غفَر له ورحمه، إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ [الأعراف:56].

العفو ـ عبادَ الله ـ شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه وهذا ديدَنُه.

إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي [3]، وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ : ((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء))[4].

أيّها المسلمون، إنَّ شريعتَنا الغرّاء يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق بخلقِ العفو والتجاوُز لم تقصِر هذا الحضّ في نطاقٍ ضيق أو دائرة مغلَقَة، بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل العَامّ والخاصّ، فلقد جاء الحضُّ من الشارع الحكيم للقيادة الكُبرى وأهلِ الولاية العظمى بذلك؛ لأنَّ تمثُّل القيادَةِ بسيما العفوِ والتسامُح أمارةٌ من أمارات القائدِ الناجحِ كما أمرَ الله نبيَّه في قولِه: خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، والعفو هنا هو التجاوُز على أحدِ التفسيرَين، وكما في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:195].

ولقد تعدَّى الحضُّ أيضًا إلى أبوابِ الدِّماء والقِصاص كما في قولِه تعالى: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [المائدة:54]، كما تعدى الحضّ أيضًا إلى الزَّوجين في مسألةِ الصداق في الطلاق قبلَ الدخول حيث قال سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، بل إنَّ الحضَّ على العفوِ قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُع الناس وشراءَهم ومدايناتهم، فقد قال النبي : ((من أقال مسلمًا بيعتَه أقال الله عثرتَه)) رواه أبو داود وابن ماجه[5]، وقال : ((كان تاجرٌ يدايِن الناس، فإذا رأَى معسِرًا قال لفتيانه: تجاوَزوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوَز الله عنه)) رواه البخاري ومسلم[6]. وثمّة تأكيدٌ على عموم الحضِّ على العفوِ في التعاملِ مع الآخرين بسؤالِ الرجل الذي جاء إلى النبيِّ فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَت، ثم أعادَ عليه الكلام فصمَت، فلمّا كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرة)) رواه أبو داود والترمذي[7].

وبعدُ يا رعاكم الله: فإنّ العفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى:39]، وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"[8]، قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه)[9]، وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"[10]، وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان".

ثم إنَّ بعض الناس ـ عباد الله ـ قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي، ليس إلا. ترونَه وترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه، وإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار. ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه، وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل. رواه مسلم[11].

ألا إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].

باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.




[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] مسند أحمد (2/436) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا القضاعي في مسند الشهاب (820)، وفي إسناده محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، وقد خولف في إسناد هذا الحديث، فرواه الليث بن سعد مرسلا، ورجح الإرسال البخاري في التاريخ (2/102)، والدارقطني في العلل (8/153)، والحديث في السلسلة الصحيحة (2231).

[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6114)، صحيح مسلم: كتاب البر (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] مسند أحمد (3/440) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب (4777)، والترمذي في صفة القيامة (2493)، وابن ماجه في الزهد (4186)، وأبو يعلى (1497)، والطبراني في الكبير (20/188)، والبيهقي في الشعب (6/313)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2753).

[5] سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب: في فضل الإقالة (3460)، سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب: الإقالة (2199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه قوله: ((بيعته))، وأخرجه أيضًا أحمد (2/152)، وصححه ابن حبان (5030)، والحاكم (2/45)، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في المحلى (9/3)، وابن دقيق العيد كما في الفيض (6/79)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (3/18): "إسناد صحيح على شرط مسلم"، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه أيضًا الألباني في إرواء الغليل (1334).

[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2078)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1562) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5164)، سنن الترمذي: كتاب البر (1949) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/90، 111)، وعبد بن حميد (821)، وأبو يعلى (5760)، والطبراني في الأوسط (1765)، والبيهقي في الكبرى (8/10)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وجود المنذري في الترغيب رواية أبي يعلى (3/152)، وقال الهيثمي في المجمع (4/238): "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (488).

[8] صحيح البخاري: كتاب المظالم، باب: الانتصار من المظالم، قال ابن حجر في الفتح (5/100): "هذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:39]".

[9] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/319 ـ مؤسسة الرسالة ـ)

[10] انظر: أدب المجالسة لابن عبد البر (ص116).

[11] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.

وبعد: فاتَّّقوا الله أيها المسلمون، واعلَموا أنَّ تحضيضَ الشريعة على العفوِ والتجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل إنَّ التحضيضَ عمَّ الظاهر والباطنَ معًا، فأطلق على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، والعفوُ والصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛ لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن، ولذا أمَر الله نبيَّه به في قولِه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وهو الذي لا عتاب معه.

وقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قولِه تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [المائدة:13]، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، وقوله سبحانه: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:22]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14].

العفو والصّفح ـ عباد الله ـ هما خلُقُ النبيّ ، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين ؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله فقالت: لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين[1]. وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:36، 37].

هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...



[1] مسند أحمد (6/174، 236، 246)، سنن الترمذي: كتاب البر (2016)، وأخرجه أيضا الطيالسي (1520)، وابن راهويه في مسنده (1612)، والبيهقي في الكبرى (7/45) وفي الشعب (6/312)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6443)، والحاكم (4224)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1640).

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً