.

اليوم م الموافق ‏23/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

أخلاق الكبار

5997

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

سعيد بن سالم السناني

الساحل

جامع الساحل

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- إتمام النبي لمكارم الأخلاق. 2- فضل العفو والصفح. 3- عفو النبي . 4- ذم الحقد والانتقام. 5- الالتباس بين الانتصار للنفس والانتصار للدين.

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المسلمون، أوصيكم بوصية الله في الأولين والآخرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

بعث الله نبيه ليتمم مكارم الأخلاق، قال عليه السلام: ((إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق))؛ ذلك لأن مكارم الأخلاق تجعل من المسلمين رجالا ومن المتقين أبطالا، فالإسلام دين يقدر الإنسان بخُلُقه وكرمه، ويزن الشخص بفضله وأدبه، لا بحسبه ونسبه. وحثّنا عليه الصلاة السلام على التحلي بالخلق الحسن لما يترتب عليه من المحبة والألفة بين العباد، فروى الترمذي أنه عليه السلام قال: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسانكم أخلاقا))، وقال عليه السلام للأشج بن قيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة)) رواه مسلم، وبيّن عليه السلام أكمل المؤمنين فقال: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا، الموطّؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) أخرجه الطبراني.

ومن الأخلاق العظيمة خلق العفو والسماحة عن الآخرين، خلق التغاضي عن أخطاء وزلات الآخرين، ولقد وصف الله عز وجل نفسه بالعفو، والعفو صفة من صفاته العظيمة سبحانه، وهي تعني التجاوز عن الذنب والزلة وعدم المؤاخذة وترك المعاجلة بالعقوبة، فهو عفو غفور حليم كريم يحب العفو.

ووالله، ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أكرم خلقا وأزكى نفسا وأعظم عفوا من محمد ، فقد ضرب عليه السلام لأمته أروع الأمثلة في الصفح والتسامح، وإن شئت فانظر إليه عليه السلام في فتح مكة لما دخلها فاتحا منتصرا على المشركين، جعل عليه السلام يتأمل في وجوه الكفار وهو في قمّة عزه وملكه عند باب الكعبة، وهم في غاية ذلهم وضعفهم، في مكان طالما كذبوه فيه وأهانوه وألقوا عليه الأوساخ وهو ساجد، وكفار قريش اليوم بين يديه مهزومين أذلاء صاغرين، ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟)) فانتفضوا وقالوا: تفعل بنا خيرا؛ أنت أخ كريم وابن أخ كريم. عجبا! هل نسوا ما كانوا يفعلونه بهذا الأخ الكريم؟! أين سبّكم: مجنون ساحر كاهن؟! ما دام أنه أخ كريم فلماذا حاربتموه؟! أين تعذيبكم للمسلمين واضطهادكم للضعفاء؟! أين حربكم له في بدر وأحد وتحزبكم يوم الخندق؟! أين شريط طويل من الذكريات المؤلمة؟! واليوم تقولون: أخ كريم! كان عليه السلام يستطيع أن ينزل بهم أقسى أنواع العقوبات، فهم أعداء محاربون معتدون خونة، فإذا به عليه السلام يدوس على الأحقاد ويحلّق بهمته عاليا ويقول كلمته يهتف بها التاريخ: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

ما أجمل العفو عن الناس ونسيان الماضي الأليم! هذا خلق لا يستطيعه إلا العظماء الذين يترفعون بأخلاقهم عن سفالة الانتقام والحقد وشفاء الغيظ. كان عليه السلام يلتمس المعاذير للمخطئين ويحسن الظن بالمذنبين، لم يكن يتصيّد أخطاء الناس وزلاتهم ويحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة، بل كان واسع الصدر كثير السماحة، لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، وكان قويّ البطانة يضبط أعصابه حتى في أحلك الظروف ويتعامل مع الأمور الصعبة بحنكة وحكمة وبأريحية تامة.

أيها المسلمون، إن أصحاب النفوس الكبيرة هم الذين يُحلّقون عاليًا ويترفّعون عن الدنايا وسفساف الأمور، فتعلو هممهم عن الدوران في الوحل والحضيض، ويرتفعون عاليًا، فلا يدور الواحد منهم حول نفسه؛ ترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويُعجبه المدح ويسوؤه الذم، يقاطع هذا لأنه ذمّه، ويُحب هذا لأنه مَدَحَه، ويُعادي هذا لأنه جَرَحَه، يدورُ مع نفسه حيث دارت، يرضى من أجلها ويسخطُ من أجلها، يُحبُ لها ويغضبُ لها، فهذا صاحبُ نفسٍ دنيئة، رضي بأن يكون مع نفسه في الهاوية، وحَرَمَ نفسه جنّةً قبل جنّة الآخرة، وهي انشراح الصدر والأُنس والسعادة التي تحصل بالتّرفع والعلو عن الدنايا وسفساف الأمور.

هؤلاء هم الكبار أصحاب النفوس الكبيرة، ولا أعني بالكبار هم من تقدّم بهم السن وطال بهم العمر، ولا أعني بالكبار من تبوّؤوا المناصب العالية وحصّلوا الرتب الرفيعة، فقد يكون الإنسان كبيرا في السن لكنه صغير في أخلاقه متدنٍّ في تعاملاته. إنما أتحدث عن أصحاب نفوسٍ كُبرى وصدورٍ واسعة، لا يلتفتون إلى أنفسهم، ولا يقفون عندها، وإنما تعنيهم المصالح الكُبرى للإسلام.

فكم من أسر تشتّتت وكم من زوجين قد تفرّقا وكم من محبّة تحوّلت إلى عداوة وكم من شراكة في عمل قد تشرذمت وكم من علاقات قد تقطعت أواصرها بسبب تدني النفوس، بسبب الوقوف عند حظ النفس، فيرضى لأجلها، ويغضب لأجلها، يكون الإنسان منتصرا لنفسه على أي حال كان، ولا يقبل من أحد أن يصدر منه خلل أو تقصير ولا نقص، وإذا حصل شيء من ذلك فلا عفو ولا مسامحة، ولا تذكُّر لصنائع المعروف السابقة، ولا نظر إلى الحسنات الكثيرة وأواصر المحبة والروابط التي جمعت بين هؤلاء المتحابين، ينسى ذلك كله، ويفجر في خصومته وعداوته، وينقلب رأسا على عقب مبغضا شانئا لهذا الإنسان الذي تصوّر أنه تنقصه وأنه قصر في حق من حقوقه .

لماذا ـ أيها المسلمون ـ هذا التدني في الأخلاق؟! لماذا يجعل الإنسان نفسه بهذا الأسلوب؟! كل هذا بسبب ركون الإنسان إلى أصل خلقته ومادته الأولى التي خلق منها وهي الطين، فالإنسان خلق من عنصرين اثنين: قبضة من طين ونفخة من روح، فإذا ركن الإنسان إلى أصل خلقته وهي الطين فإنها تجذبه وتشده أسفل، فتتدنى أخلاقه وتسوء تصرفاته ويصدر منه ما لا يليق وما يخجل منه العاقل، ولو أنه ترفع عن ذلك كله وكسر هذه الأواصر والقيود وتخلص من دناءة الأخلاق لحلّق عاليا وارتفع وتسامى بأخلاقه وتجاوز نفسه وجعلها خلف ظهره، فلم يعد ذلك الإنسان الذي ترضيه الكلمة وتسخطه الكلمة، بل تجاوز هذه المرحلة الدنيئة، ثم بعد ذلك يتعامل مع الآخرين بصدر واسع وبنفس كبيرة، يتحمل من الناس الصدمات والأخطاء والعيوب، يتحمّل منهم كلّ ما صدر اتجاهه من تقصير في حقه الخاص. ولا يصلح لمن أراد أن يحصل المراتب العالية إلا هذه الأخلاق، وهذا الحديث أوجّهه لنفسي أولا ثم إلى السامعين.

 فكن ـ أيها المسلم ـ ممن يسمع لينتفع، فجدد حياتك ونقّ أخلاقك وقوّم سلوكك وارجع إلى أهلك وأصحابك بوجه جديد وبنفس أخرى، تتجاوز هذه الحظوظ الشخصية التي تجعلك صغيرا مهما كنت كبيرا.

إن تطبيق هذه الأخلاق الراقية والعمل بها في أرض الواقع هو المحك الذي تتبدّى فيه معادن الناس وتتجلى فيه النفوس وتظهر حقائقها، فليست العبرة أن يستحسن الإنسان الأخلاق الحسنة، ولكن العبرة في العمل والتطبيق، ليست الأخلاق في حال الرضا إنما الأخلاق في حال الغضب، ليست الأخلاق الفاضلة أن توزّع ابتسامات في حالة الرضا مع أصحابك وجلسائك، إنما الأخلاق الحقيقية أن تسموَ بنفسك في جميع الظروف وأحلكها، فتترفّع عن سفاسف الأخلاق.

هذه هي الأخلاق التي ينبغي أن يكون الإنسان عليها، والله لو طبقنا هذه الأخلاق في حياتنا لقلّت كثير من حالات الشقاق والخصام والطلاق. فهل أنت ـ أيها المسلم ـ من أصحاب النفوس الكبيرة؟ هل أنت متحلٍّ حقيقة بهذا الوصف الذي قررناه أم أنك قد قصرت في هذا الأمر تقصيرا بيّنا فأدى ذلك وأثمر أمورا سيئة مستهجنة من عداوات وأحقاد وتربّص بتصفية الحسابات مع هذا وذاك؟!

 عباد الله، كثير منا يختلط عليه الأمر بين الانتصار للدين والانتصار للنفس، أحيانا يخرج الإنسان غاضبا يريد الانتصار والانتقام ويريد الإيقاع بخصومه ومخالفيه، ويخرج بوجه شاحب، وهو بذلك قد تلبّس وتدثّر بدثار يقول فيه: إنه ينتصر للدين، ويفعل ذلك غيرة على شرائع الإسلام، فيلتبس عليه الأمر بين الانتصار لدينه ونفسه، كما يلتبس علينا كثيرا أمر العزّة وأن المؤمن عزيز مستندين على قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كثيرا ما تلتبس هذه العزة عزة المؤمن تلتبس مع الانتقام والرغبة في الاقتصاص ممن أخطأ عليك وتعدى، فلربما صدر منك ما لا يليق تحت مسمى العزة عزة المؤمن، وأنه لا يقبل الهوان ولا يرضى بالذل، فينتصر لنفسه، ولربها بالغ في الانتصار تحت هذا المسمى.

وما علم هؤلاء أن جميع الآيات القرآنية تذكر فضل العفو الصفح والمسامحة، قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ولكن من يطيق ذلك؟! قال الله: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. ويأتيه الشيطان يحركه لينتصر لنفسه زاعما أن ترك هذا الانتصار عجز وذلّ، وأن الناس يعيرونه بالضعف ويلمزونه بالنقص، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

فهذه الآيات خاطبنا الله بها لتقويم هذا السلوك وتصحيح المفاهيم. فهناك في الحقيقة قصور كبير وخلل واضح على جميع المستويات عند طلبة العلم وعند عامة الناس وعند الزوج وعند الزوجات وعند المربين وفي جميع فئات المجتمع إلا من رحم الله.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله القوي الحليم، يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُطاع فيشكر، ويُعصى فيغفر، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، لقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قولِه تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ

 

، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وقوله سبحانه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.

ومَن كانت صفَته العفو فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛ لأنَّ النبيَّ قال: ((وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا)) رواه مسلم، وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره)).

فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من يطلبها، إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة، وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ، وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ : ((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء)).

وهذه الأخلاق يتحلى بها المسلم لا ليمدَح أو يتّخذ بها غرضا دنيويا، بل هي عبادة يتعبّد بها لله كما يتعبد في الصلاة والصوم، فيحتسب ابتسامته قربة ورفقه عبادة وعفوه ولينه حسنات. من اعتبر حسن الخلق عبادة تحلى بها في جميع أحواله؛ في السوق وفي العمل وبين الزوجة وزوجته ومع الوالدين ومع جميع أفراد المجتمع.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأهواء والأقوال والأعمال...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً