أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 123].
أيها الناس، لما خلق الله تعالى البشر وابتلاهم بالإيمان والكفر وبالطاعة والمعصية فإنه سبحانه دلهم على ما يرضيه، وحذرهم مما يسخطه، ورزقهم أدوات العلم والإدراك ومعرفة الخير من الشر وتمييز النفع من الضر، وهي الأسماع والأبصار والعقول، وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] .
ومن حكمته تعالى أنه جعل الشيطان وجنده فتنة لهم، يصدونهم عن الهداية، ويزينون لهم الغواية، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]. والغواية تكون بالقول ومحل ذلك اللسان والسمع، وتكون بالفعل ومحل ذلك البصر والجوارح، والقلب يَفْسُد بغواية البصر والسمع؛ ولذا أُمر المؤمن بحفظ سمعه وبصره عما حرم الله تعالى ليسلم له قلبه: إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]. ويوم القيامة تشهد الأسماع والأبصار على أهل المعاصي بما كانوا يسمعون ويبصرون، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصِّلت: 20].
وأمر الله تعالى بغض الأبصار لأنها طريق إلى الفروج وتحريكها للرجال وللنساء، فجمع بينهما: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]، وفي الآية الأخرى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: 31]، وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي قال: ((كُتِبَ على بن آدَمَ نَصِيبُهُ من الزِّنَا مُدْرِكٌ ذلك لا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذلك الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ)) رواه الشيخان واللفظ لمسلم.
وخطورة السمع والبصر على العباد كبيرة، وعلاقتهما بالزنا وثيقة؛ لأن الزنا له مقدمات يقوم بها السمع والبصر واللسان ويهيئ الناس له، ولأجل ذلك كان من الدعاء المأثور التعوّذ بالله تعالى من شر هذه الجوارح، جاء رجل إلى النبي فقال: عَلِّمْنِي تَعَوُّذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قال: فَأَخَذَ بِكَتِفِي فقال: ((قُلْ: اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من شَرِّ سَمْعِي وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي))، يَعْنِي: فَرْجَهُ. رواه أبو داود والترمذي وقال: "حسن غريب". وقيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: رجل تاب وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية غير أنه لا يدع النظر قال: أيّ توبة هذه؟! وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فالنظر داعية إلى فساد القلب، قال بعض السلف: النظر سَهْمٌ سُمٌ إلى القلب".
كل هذه النصوص والآثار تدل على عظيم فتنة النظر والاستماع، وأنّ العباد قد يقعون في الكبائر بسببهما، وكان الرجل يرى المرأة أو يستمع إليها في طريق أو سوق أو بستان أو نحوه، وقد يمر عليه أيام لا يرى امرأة أبدا، هذا كان قديما، لكن مع اختراع وسائل تحريك الصور ونقلها وحفظها ازدادت نسبة النظر إلى النساء فيما عرف بدور السينما، ثم مع اختراع شبكات التلفزة ازداد النظر إليهن أكثر من ذي قبل؛ لأنهن اقتحمن على الناس بيوتهم، ثم لما حدثت ثورة الاتصالات في البث الفضائي والشبكة العنكبوتية صار النظر إلى النساء وهنّ بأبهى حلة أمرا مألوفا عند أكثر الناس.
إن القدرة على تخزين الصور المتحركة وبثها المعروف بالسينما كان أكبر حدث في التاريخ البشري أثَّر في حفظ الأسماع والأبصار عن الحرام، وسبى القلوب والعقول، وفَتَن الناسَ فتنة عظيمة.
كانت بداية ذلك قبل ما يزيد على مائة سنة من الآن في فرنسا وأمريكا، وما هي إلا أشهر عدة حتى انتشرت هذه الصناعة الجديدة في بلاد الغرب، ونقلها اليهود والنصارى إلى مصر في نفس العام الذي بثت فيه فرنسا أول فيلم لها، وأُقحمت النساء فيها أول بدئها في مصر، وكان أكثر المخرجين والمنتجين والممثلين من أبناء اليهود والنصارى وبناتهم الذين تربعوا فيما بعد على عرش هذا الفنّ، وقُدِّموا للأمة روادا لها، وجُعلوا قدوة للشباب والفتيات يقتدون بها، ومن هؤلاء السينمائيين من اضطروا لتغيير أسمائهم اليهودية والنصرانية لئلا تُعرف دياناتُهم فلا يَقْبَلُهم الجمهور، ولا يُقْبِلون على إنتاجهم وإفسادهم للناس.
وما مضت ثلاثة عقود على نشأة السينما في مصر إلا وكان بها أكثر من مائة شركة إنتاج سينمائي تصوغ العقول، وتفرض الأفكار، وتسطو على القيم والأخلاق. تدار بأيدي أجانب ووكلائهم، ويموّلها اليهود والنصارى، ويرسمون سياستها؛ ولذا فإنها كُرِّست لإفساد الشباب والشابات، ودارت أفلامها في فلك الحب الغرام ونشر ثقافة التمرد والتحرر واللذات المحرمة، وغزت عقول مشاهديها بالأفكار الغربية المادية المتحللة من الدين والأخلاق؛ حتى إن مجلة صباح اليسارية المصرية تذمّرت من السيطرة الأجنبية على السينما المصرية وغرسها لأفكار وأخلاق معينة، فكتبت في افتتاحيتها: "لقد كنا إلى آخر لحظة نحسن الظن أو نحاول أن نحسن الظن بجماعة الأجانب الذين يحترفون السينما في مصر... وطالما أغمضنا أعيننا عن كثير من الجرائم التي يرتكبونها ويعتدون فيها على كرامة المصري... أهملوا اللغة العربية وهي لغة السواد الأعظم من أبناء البلاد".
وفي حقبة الأربعينات الميلادية شن أحد النقاد اليساريين حملة قوية على وضع السينما ومضامينها، وكتب المقالات المنتقدة لها، وسماها (سينما المخدرات) لما فيها من مضامين الفساد. وهاجم نظرية (الفن للفن) التي يردّدها الآن بعض بني قومنا المتحمّسين للإفساد في بلادنا باسم الانفتاح والإصلاح.
وكل ما نقلته وما سأنقله على مسامعكم من أقوال حول السينما فإنها ليست لعلماء ولا لدعاة ولا لأحد ينتسب للتيارات الإسلامية، وإنما هي لأناس تحمّسوا للسينما في أوطانهم، لكنهم لما رأوا أفكارها ورسالتها التي تؤدّيها علموا أنها ليست أداة محايدة للترفيه، وإنما هي مزرعة لاستنبات الأفكار الغربية المنحرفة في البيئة الشرقية المسلمة، فأبت عليهم وطنيتهم إلا أن يبينوا ذلك للناس ويحذروهم منه.
لقد درس ناقد فرنسي إنتاج السينما العربية، وحلل واقعها خلال خمسة عشر عاما؛ ليثبت بعد ذلك السطو الإمبريالي الرأسمالي عليها، ويؤكد في دراسته استئثار شركات الإنتاج والتوزيع الأمريكية بها. ويلخص هذا المعنى أحد أشهر النقاد السنيمائيين العرب فيقول: "كانت الأفلام الواردة من خارج الوطن العربي والعالم الإسلامي والأفلام المصنوعة داخل الوطن العربي والعالم الإسلامي تتقاسم قتل المشاهد فكريا وأخلاقيا بصورة تبعث على الدهشة، وكأنما كان هناك نوع من التلذّذ بعملية هذا القتل البطيء والمستمر دونما هوادة". ثم يذكر أن أي دراسة سيسيولوجية لتأثير ما أنتجته السينما تُظْهِر بجلاء أنها لعبت دورا كبيرا في تخريب الكثير من القيم الإنسانية، وفي تشويه العقل العربي الخام، ودفعه في اتجاه البحث عن قيم غربية بعيدة عن تقاليده وقيمه.
ولن يكون حالنا إن أُقرّت السينما عندنا إلا كحال من سبقونا، فلنأخذ العبرة منهم، ولنستمع لأقاويل عقلائهم حين كشفوا اللثام عنها، وأثبتوا أن كبار المفسدين من اليهود والرأسماليين هم من يديرونها لتحقيق مآربهم في الفساد والإفساد، وأن منافستهم عليها أو مزاحمتهم فيها ضرب من الخيال، والسلامة لا يعدلها شيء، ورحم الله من اتعظ بغيره، والمخذول من لا يتعظ بالمواعظ، ولا يعتبر بمن كانوا قبله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|