أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا المعاصي فهي طريق الهلاك، فالغنا بريد الزّنا، والخمرُ أمُّ الخبائث، والكذب سبيل النفاق، وحبُّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة، وطولُ الأمل يُنسي، والورَع يخفِّف الحسابَ، والزهد يبصِّر بالعورات، ودَع ما يريبك إلى ما لا يريبك يسلَمْ لك دينك، أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ [العاديات: 9-11].
أيّها المسلمون، داءٌ من أدواءِ الأمَمِ قَديمًا، ومُشكلةٌ من مُشكلات العصرِ حديثًا، وإنّك لتعجَب ممن رضي بالله ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمَدٍ صلّى الله عليه وآلِه سلّم نبيًّا ورسولا، تعجب ممّن عرف ربَّه وعرف دينَ الحقّ وصحَّ إيمانه وصدَق توكّله وتحقَّق توحيده، كما تعجَب مِن عصرٍ يوصَف بالتقدّم العلمي والعِلم التجريبيّ، تقدُّمٌ علميّ وتِقَني في الأدوية والعلاج والوسائل، ومع هذا كلِّه يسود هذا الداءُ وينتشر هذا البلاءُ ويعمُّ هذا الخطر. خطرٌ يهدِّد المجتمع، وعاملٌ من عوامل تفكُّك الأسَر وهدم العلاقاتِ الاجتماعيّة وتقطيع أواصِر القُربى وإحلال الحقد محلَّ المحبّة والخوف مكانَ الطمأنينة، داءٌ يزرَع الاضطرابَ وينزع الثقةَ، بل إنه صورةٌ من صوَر ضَعف العقول ونقصِ التفكير، ناهيكم بضعفِ الديانة وخلَل العقيدة، داءٌ يمارسه الفَسَقة والأراذل، ولا يرضاه الصّالحون وأهلُ التُّقى، إنَّ نفوسَ مَن يقدِم عليه تتَّصف بالخبثِ والدناءة والمكرِ، تَسلُك كلَّ الوسائل مهما خبُثت، وتقتَحِم السبلَ مهما انحطَّت، ليس لصاحبه في الآخرة من خَلاق، فسادٌ في الدّين وشرّ في العمَل وتهويل ودجل. ذلكم ـ عباد الله ـ هو السّحر والسحرة والكِهانة والكهنة والدجل والشّعوذة.
الساحر شيطانٌ من شياطين الإنس، لا يحب الخير للناس، نزِعَت الرأفةُ من قلبه والرحمةُ من نفسه، همُّه المال وإيذاءُ الناس، قبيحُ المسلك، في أعماله ما يوقع في الكفر أو يقود إليه، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]. لا يتوانى عن الكذب ولا يتورَّع عن الخداع والتلوّن.
الساحِر لم يقدِم على سِحره إلا لإعراضِه عن ربِّه وشَرعه، وقد علمَ أن كثيرًا من أنواع السّحر لا يحصل إلا بالكفر والتقرّب إلى الجنّ والشياطين مما لم يأذَن به الله، يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ترى خلقًا كثيرًا من الضُّلال يدخلون في السّحر ويظنّون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه كفر". وفي الحديث: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدِّق بالسحر)).
ومن دقائقِ المعاني أنّ الله سبحانه وتعالى ذَكَر في كتابه الكَريم أنَّ الذين اتَّبعوا ما تتلو الشياطين هم الذين نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، فقال سبحانه: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الآية [البقرة: 101، 102].
ولقد قرَّر أهل العلم رحمهم الله أنَّ تعلّم السحر محرمٌ، بل هو كفرٌ إذا كان وسيلتُه الإشراكَ بالجن والشياطين، يقول الإمام النوويّ رحمه الله: "وعمل السحر حرام، وهو من الكبائرِ بالإجماع، وقد عدَّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلَّم من السبع الموبقات، وتعلُّمُه وتعليمه حرام، فإن تضمَّن ما يقتضِي الكفرَ كفر"، وقال أبو بكر الجصّاص رحمه الله: "اتفق السلف على وجوبِ قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله : ((من أتى كاهنًا أو عرّافًا أو ساحرًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ))".
عباد الله، عمَل السحر بغيٌ ومكرٌ وخبثٌ وظُلم، والساحر يظلِم نفسَه ويغضِب ربَّه ويخسر دينَه ويوقع نفسه في سخط الله ومقته، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102]، وفي الحديث المتفق عليه: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يومَ الزحف، وقذفُ المحصنات الغافلات المؤمنات)).
ويدخل في ذلك ـ معاشر المسلمين ـ التنجيمُ والكهانة مما هو دَجلٌ وتخبطٌ من أجلِ أكل أموال الناس بالباطل وإدخالِ الهمّ والغمّ عليهم. هؤلاء المنجِّمون الدجّالون يستدلّون بالنجوم والكواكب وأحوالها وأبراجها ومنازلها وحركاتها واقترانها وافتراقها، يستدلون بذلك على الحوادث الأرضيّة وعلى أحوال الناس من شقاءٍ وسعادةٍ وحُظوظ، وكلُّ ذلك حرامٌ باطل، يقود بصاحبه إلى الكفر إذا اعتقد علمَ الغيب أو اعتقَد أنَّ لأحدٍ غير الله القدرةَ على التصرّف في الخلق، فذلك كلُّه كفرٌ بالله واستعانةٌ بغيرِ الله وشِركٌ به، تعالى الله عما يقول الظالمون الجاحدون المعاندون علوًّا كبيرا.
والحوادثُ الأرضية ليس للنّجوم بها تعلُّق أو ارتباطٌ أو تأثير، ففي الصحيحين من حديثِ زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله ذاتَ ليلةٍ على إثر سماء من الليل ـ أي: على إثر مطر ـ، فلمّا انصرَف أقبلَ على الناسِ فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فمن قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا فإنه كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب، ومن قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب)). والشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد أو لحياته، بل هما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عبادَه، وقد جعلهما الله بحُسبان، يعلم الناس بهما عددَ السنين والحساب، والنجومُ زينةٌ للسماء، يُهدى بها في ظلمات البر والبحر.
أيّها الإخوة المسلمون، لقد عظُم الضرَر واشتدَّ الخطب بهؤلاء المفترين الذين يمارسون هذه التخبطات والتكهّنات، ويلبِّسون على ضعاف العقول والبصيرة، وإذا كانت الشّعوذات والخرافات ووصفات العلاج الجاهلية تملأ الأرصِفة والطرقاتِ في بعض البلدان الضعيفة والفقيرة، فمع الأسَف ما كان على هذه الأرصفة التَقَطته بعضُ القنوات والشاشات ليقَعَ التلبيس على الجميع كِبارًا وصغارا رجالا ونساء، فلا ينبغي الاستهانة بهذه الشعوذات الفضائيّة والوصفات الزائفة.
معاشر المسلمين، وممن يدخل في التحذير والوعيد الذين يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ليطلُبوا منهم أن يسحَروا غيرَهم من أعدائهم أو أصدقائهم، فمن سلك هذا المسلكَ فهو ظالم لنفسِه معتدٍ أثيم، غايته الانتقامُ من أخيه المسلم، يذهب إلى هذا الساحر ليفرِّق بين فلان وفلانة، أو يمنعَ فلانًا من الزواج بفلانة، أو أن ينفّر فلانا من أهل بيته، وفي الحديث: ((ليس منا من تطيّر أو تُطيِّر له، أو تكهن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له)) رواه البزار بسند جيد. أين هؤلاء من عقوبةِ الله وقد جاء في الخبر: لعَن رسول الله العاضِهةَ المستعضِهة، يعني: الساحرة والتي تسأل أن تسحرَ لها. سحر وحسد وحقد وظلم لأن فلانًا تزوّج فلانة، أو لأنّ فلانًا أنعم الله عليه بما أنعم وأعطاه ما أعطاه. فليتّق الله هؤلاء جميعا، وليستغفروا الله وليتوبوا إليه.
معاشر المسلمين، ويحرُم الذهابُ إلى هؤلاء الكَهَنة والسحرة والمشَعوذين والدجالين، ولا يجوز تصديقهم، فما أفعالهم ولا كلامُهم إلاَّ دجلٌ ورجمٌ بالغيب واستعانةٌ محرَّمةٌ بغير الله، وذلك كلّه حرامٌ في دينِ الله وكبيرةٌ من كبائر الذنوب يقود إلى الكفر والضلال. ومن ادعى علمَ الغيب فقد كفر، يقول رسول الله : ((من أتى عرَّافا فسأله عن شيء لم تقبَل له صلاة أربعين ليلة)) رواه أحمد، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدَّقه بما يقول فقد كفَر ما أنزل على محمد )). قال بعض أهل العلم: إنّ من يأتي الكاهن فيسأله وإن لم يصدّقه لم تقبَل له صلاة أربعين يومًا، وإن سأله وصدّقه بما يقول فهو داخل في حديث: ((فقد كفر بما أنزل على محمد )).
إنّ الذين يذهبون إلى السحرة والكهان والمشعوذين وأصحابِ الدجل يرجون نفعهم أو يطلبون الشفاء من أمراضهم إنما يزدادون سوءًا وإثما ولو حصل نفع في ظنّهم أو وهمهم، فحسبُهم أنّ ما نفع البدنَ أفسدَ الدين، وذلك هو الخسران المبين. وأنى لهم النفع والله يقول: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69]؟!
نعم يا عباد الله، فليخشَ هؤلاء الذين يتعلَّقون بالسحرة والمشعوذين أن يكونَ ثمنُ ذلك دينَهم وإيمانهم، وليتفكروا فما بعثَهم على ذلك ولا دفعهم إليه إلا سوءُ ظنٍّ بربهم وخلل في عقيدتهم، وقد علموا أن السحر من عمل الشيطان.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنّ السحرَ والكهانة والشعوذة والدجل فتنٌ تصدّ صاحبَها عن الحق وتعمي عن الهدى وتوقع في الضلال، ومن ابتُلي بها تعلّق بغير الله وابتعَد عن منهج الله وضلّ الضلال المبين. وإذا كان المرءُ حريصًا على أن يعرفَ الأمراضَ التي تؤذيه في بدنه فالأولى به مع ذلك أن يعرفَ الأمراضَ التي تضرّه في دينه وعقيدته وتقدَح في إيمانه، فأمراض العقائد والقلوب أشدُّ فتكًا وأعظم ضررُا من أمراض الأبدان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102، 103].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|