أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه، واحمدوه على هدايته ورعايته وكفايته؛ فإنّ فضل الله تعالى عليكم عظيم، وخيره فيكم كثير، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
أيها الناس، طلب الجاه والرفعة والمال والشهرة وعلو المنزلة أمنية يتمناها أكثر الناس، ويسعون جهدَهم لها، ويبذلون الغالي والنفيس لأجلها، وللجاه سكرة تفوق سكرة الخمر، وشهوة تزيد على اشتهاء النساء؛ إذ بالجاه والرياسة يُعرف الرجل الخامل ويُذكر، فيبزُّ أقرانه، وينفع إخوانه، ويغيظ أعداءه، وبما يملك من جاه ويتبوأ من رئاسة تخضع له أعناق الرجال، ويذلّ له الشجعان، ويرجوه الطامعون، ويهابه الكارهون.
إن الإنسان يحب الذكر والشهرة والثناء والمدح وهو مخلوق من نطفة قذرة، ويحمل في بطنه العذرة، ويكون بعد موته جيفة منتنة. إنه عاش أحقابا بلا ذكر، ويحبّ أن يذكر ويُشهر، وقد خلت القرون ولم يعرفه أحد ويحب أن يعرف. لم يختلّ نظام العالم قبل وجوده، ولم يتغير بعد وجوده، ويموت يوم يموت والدنيا هي الدنيا، وأحوالها هي أحوالها، ولقد مات قادة البشر وعظماؤهم ومشاهيرهم، وبكاهم الناس ولم يتغير شيء من الكون بموتهم، أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67]، وفي آية أخرى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1]. هذا الذي لم يكن شيئا مذكورا مفتون في أن يُذكر ويُشهر، فما أظلمه! وما أطغاه! قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17].
والمتأمل في النصوص يجد أن العبد من محبته للشهرة والذكر قد يعمل أعمالا صالحة جليلة لا يبتغي بها إلا ذكر الناس له، وثناءهم عليه، واحتفاءهم به؛ كما جاء في الحديث: ((الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ))، وفي خبر الثلاثة الذين يُسحبون على وجوههم إلى النار يقال للمجاهد منهم: ((قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ))، ويقال للعالم منهم: ((تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هو قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ))، ويقال للمنفق منهم: ((فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هو جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ)).
تأملوا ـ رحمكم الله تعالى ـ ضعف الإنسان أمام الذكر والشهرة، يبذل في سبيلها نفسه وهي أغلى ما يملك بعد إيمانه، ويقضي عمره كله يجمع ماله ثم يبذله في سبيل الذكر، والعالم يقضي عمره كله في تحصيل العلم وتحمّل مشقته ومكابدة السهر والقلة بسببه ثم لا يريد بذلك إلا الذكر والشهرة.
إن غالب ما يطلبه العبد في الدنيا وما يعمله من أعمال فإن للذكر فيه حظًا وافرًا، وللمدح فيه نصيبًا كبيرًا إلا ما شاء الله تعالى؛ ذلك أنّ الناس يحبون المدح والثناء بما فعلوا وما لم يفعلوا، وهذا أساس من أسس فساد البشر، وعلوهم في الأرض، وبغيهم على غيرهم، وضعف العبودية في قلوبهم، وبيع كثير منهم لدينهم، وعدم صدعهم بالحقّ الذي عليهم، وقد روى كَعْبُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النبي قال: ((ما ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمٍ أَفْسَدَ له من حِرْصِ الْمَرْءِ على الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)) رواه أحمد وصححه ابن حبان.
إن محبة الذكر والمدح من خصائص الله تعالى التي يجبّ أن لا يُنازَع فيها؛ فإنه سبحانه يحب من عبيده أن يذكروه، والعبودية التي يؤديها المؤمن لربه هي من ذكره سبحانه، ومن أحب الأعمال إليه عز وجل ترطيب اللسان بذكره تعالى، والمشتغل بذكر الله سبحانه لا يشتغل بذكر نفسه، ولا يسعى في شهرتها، ولا الدعاية لها، أو الإعلام بها، فكان جزاؤه مكافأة الله تعالى له بأن يذكره في الملكوت الأعلى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152]، وقال الله تَعَالَى في الحديث القدسي: ((أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم)) متفق عليه.
وطالب الشهرة التي يعمل العبد لأجلها ويبذل دينه في سبيلها يعاقب يوم القيامة عليها بنقيض ما أراد في الدنيا، فيُفضح أمام الناس؛ كما قال النبي : ((من سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ)) رواه الشيخان. قال الخطابي رحمه الله تعالى: "معناه: من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه".
وربنا جل في علاه يحب المدح، وهو أهله، والمدح أليق به من غيره، بل لا أحد أحق بالمدح والذكر والثناء منه سبحانه وتعالى، عَلِمنا ذلك من أسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، وأخبرنا المبلغ عنه أنه سبحانه يحب المدح كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس أَحَدٌ أَحَبَّ إليه الْمَدْحُ من الله من أَجْلِ ذلك مَدَحَ نَفْسَهُ)) رواه الشيخان.
ولا يقدر على كبح جماح نفسه الداعية إلى الظهور والشهرة المُحِبَةِ للجاه والمنصب إلا أفذاذ الرجال وقلائل الناس، يعبدون الله تعالى، ويخدمون دينه، ويؤدون الأمانة. لا يغضبون إن قُدم غيرهم عليهم، ولا يحزنون أن استأثر الناس بالأمر دونهم، فهم يعملون لله تعالى ولا يعملون للناس، ويعيشون في سبيله سبحانه لا في سبيل غيره، وغايتهم رضا الله تعالى والدار الآخرة. لا ينظرون إلى الدنيا نظر أهلها لها، ولا يتلهفون لهفهم عليها. إنهم ليسوا عبيدا للجاه والمال؛ إن أعطوا رضوا وإن لم يعطوا سخطوا، ولا يهمهم أن يكونوا من سراة الناس أو من عامتهم، أثنى عليهم النبي بقوله: ((طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إن كان في الْحِرَاسَةِ كان في الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن اسْتَأْذَنَ لم يُؤْذَنْ له، وَإِنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ)) رواه البخاري.
كان من أولئك الرجال الأفذاذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، يستخفي من الدنيا، وينقطع عن أهلها، ولا تطرف عينه من أجلها، ولا يتحرك قلبه على فوات شيء من مالها وجاهها، كان رضي الله عنه لما ثارت الفتنة في إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فقال له: أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ الناس يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟! فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ فقال: اسكت، سمعت رَسُولَ الله يقول: ((إِنَّ الله يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)) رواه مسلم.
فحري بمن عبَّد نفسه لله تعالى أن يعبِّد قلبه له سبحانه، وأن يوطنها على الإخلاص له عز وجل، وأداء ما عليه من الحقوق والأمانات، ولو استأثر الناس بالأمر دونه، وقدموا من هو أقل منه عليه. يعمل ويخلص سواء عرف الناس فضله وقدره أم لم يعرفوه، وسواء وضعوه في المكان اللائق به أم لم يضعوه؛ فإن الله تعالى يعلم قدره وفضله وإخلاصه، وجزاء الله تعالى أعظم من جزاء البشر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
|