أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما منَّ به سبحانه وتعالى على إخوانكم من النصر المبين، وكسر شوكة الكافرين، وإغاظة المنافقين، وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب: 25]، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو على ما تحقق من نصر كبير للمستضعفين الصابرين المرابطين، أرغم العدو الغاشم على إيقاف عدوانه من طرف واحد، وسحب قواته من غزة يجرّ أذيال الهزيمة والخسران، وقادته السياسيون والعسكريون يلطمون ويتلاومون.
لقد كانت معركة غزّة معركة فاصلة حاسمة سيتغير بها مجرى الأحداث في الصراع بين الحق والباطل؛ لا من حيث أطرافها، ولا من حيث وقتها، ولا من حيث نتائجها.
أما أطرافها ففئة مؤمنة مستضعفة محاصرة، تم تجويعها وإنهاكها وإضعافها على مدى عامين كاملين، لا يجد أفرادها ما يسدون به جوعهم، ولا ما يداوون به مرضاهم، ولا ما يتقون به شر أعدائهم، تقابل فئة مكتملة العدد والعتاد، مدربة أعلى تدريب، قد أحكمت سيطرتها على البر والبحر والجو، تصنّف رابع قوة في الأرض، مدعومة دعما مطلقا من القوة الأولى في الأرض، ودعما آخر كبيرا من أقوى اتحاد في الأرض، ويعينها على ظلمها منافقو الداخل والمجاورون لهم، بإحكام الحصار عليهم، والدلالة على عوراتهم، والتخذيل والإرجاف فيهم، ودعوتهم للاستسلام بلا ثمن.
لقد كان ميزان القوى مختلا اختلالا كبيرا، وكان الغرور قد ملأ قلوب مسعّري هذه الحرب الجائرة، وقلوب من أعانوهم عليها بأنها ستنتهي بتحقيق مكاسب كثيرة لهم؛ ولذا ارتمى المنافقون في أحضانهم كما لم يرتموا من قبل، وكان هاجسهم: هل ينتهون في ساعات أم في بضعة أيام؟ فإذا ألطاف الرب ومقاديره تقلب حساباتهم، فتكون العبرة وأي عبرة؟! قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ [آل عمران: 13].
وأما وقتها فكان في زمن بلغ فيه الذل والهوان مداه، ودبَّ اليأس في كثير من القلوب، وانخفض فيه الخطاب الإسلامي العزيز بعزة الإسلام؛ ليصبح خطابا استسلاميا منهزما، يحاور من لا يقبلون الحوار، ويتسوّل حقوقه من اللصوص واللئام. لقد كان في زمن شهد دعوات صريحة لتجديد دين الإسلام، وتحويله من دين العزة والأنفة والدعوة والجهاد إلى دين الخنوع والاستسلام.
لقد كانت معركة في زمن تسلّط فيه الكفار والمنافقون على دين الإسلام وعلى القرآن وعلى النبي بالطعن والاستهزاء والإزراء، وعلى أحكام الشريعة بالمسخ والتغيير.
لقد كانت معركة العزة في غزة في زمن ارتدّ فيه المرتدون، وانتكس المنتكسون، وأرعد المنافقون وأزبدوا، وبشروا بانتهاء ما سموه الإيديلوجية الإسلامويّة، ويريدون بها الإسلام المنزل الكامل دون مسخ ولا تغيير.
لقد كانت معركةَ تحصينٍ وتثبيت في زمنٍ حوصر فيه الناس بالشبهات لإخراجهم من دينهم الحق، وأُقنعوا أن دينهم هو سبب مشاكلهم وهزائمهم المتتابعة، وأنهم لن ينهضوا ويتقدموا إلا بطرحه وتغييره وتهذيبه.
لقد كانت معركةُ غزةَ في زمن زُينت فيه الشهوات للناس، وحببت إليهم الدنيا والركون إليها والتعلق بها والعمل لأجلها، وتقاعس كثير منهم عن إقامة دينهم والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
لقد كانت في زمن اقتنع فيه كثير من الناس بأن الخيار العسكري مع الأعداء ليس سوى انتحار وهلاك؛ لما يملكون من القوة والتخطيط والاتصال والتجسس. سميت حروبهم فيه حروبا إلكترونية، وإذا هذا البناء الهائل الذي صنعه الأعداء في عقليات المنهزمين يهيله الغزاويون ترابا يبابا.
وأما نتائجها فينبئنا عنها وجوه العدو المسودة من جراء الهزيمة، كما يدلنا عليها تسابق المنافقين والمخذلين لقطف ثمار هذا النصر المبين، وتسارعهم إلى المؤتمرات وعدسات المصورين ليهنئوا الأمة بنصر كانوا هم أعداءه، وليعلنوا اصطفافهم مع المنتصرين وهم الذين خنقوهم وحاصروهم وحرضوا العدو الغاشم عليهم، فلولا أنه نصر عظيم وفتح مبين لما اعترفوا به وهم أعداؤه، ولما غيروا مواقفهم من جرائه، ولكنه أوان قطف ثمار النصر، يريدون المشاركة فيها، ويخشون فواتها.
لقد أصبح الذين كانوا بالأمس القريب يقولون: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران: 168]، أصبحوا يُظهرون الفرح وهم بالأمس يلومون ويشمتون، وانتشوا بالنصر وقد أرادوا الهزيمة، وأبدوا الأخوة وكانوا بالأمس أعداء، يا للمواقف العجيبة، ويا للتلون وتبدل الحال، اقرؤوا القرآن لتعرفوا أن أوصافهم ومواقفهم لم تتغير في القديم ولا في الحديث، يقول ربنا سبحانه عنهم: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 72، 73]. وصدق الله تعالى، فلو أن أهل غزة انهزموا واحتل اليهود بلادهم لقالوا: قد قلنا ذلك من قبل، أما وقد انتصروا فهم يقولون: نحن شركاء في هذا النصر، بل نحن أهله.
إنهم المتسلقون على أكتاف غيرهم، الأذلة عند عدوهم، يصطنعون مجدهم بالكذب والغش والتزوير، ومصيرهم مزابل التاريخ، ومحلهم الكتب التي تدوّن تاريخ الخونة والعملاء وأعمالهم، وأين عبد الله بن سلول من سعد بن معاذ رضي الله عنه؟! وأيهما أذكر بالخير؟! وأيهما أذكر بالشر؟! رضي الله تعالى عن سعد وأرضاه، وسحقا لابن سلول وأذنابه.
إن نتائج معركة العزة في غزة على المدى القريب والبعيد لا يمكن حصرها، فهي بداية تحول في تاريخ الصراع مع اليهود؛ إذ انكسر صهاينة النصارى في العراق وأفغانستان، ثم انكسر صهاينة اليهود في لبنان وفي غزة، ولكن الباطنية الإمامية استغلوا حرب لبنان لإفساد المسلمين بعقائدهم الباطنية، فإذا هي تنفضح شر فضيحة في معركة غزة؛ إذ ذهبت الخطب الرنانة لحزب الشيطان أدراج الرياح. ولما أطلق مجهولون صواريخ من جنوب لبنان سارعوا هم بالإنكار، وكانوا الآن كما كانوا من قبل حماة لدولة اليهود؛ لئلا يتسرب إليها أهل السنة، فَنَعِمَتْ دولة اليهود بالراحة والأمان أثناء سيطرتهم على جنوب لبنان كما ذكر المحنطُ شارونُ في مذكراته.
وبمعركة العزة في غزة عاد لأهل السنة وهجهم، وعرف الناس أنهم أهل الميدان متى ما تخلّوا عن الرايات الجاهلية العمياء، وانضووا تحت راية الحق والهدى، وستمسح هذه المعركة الباسلة أثر نصر المبتدعة في لبنان.
إن الغزاويين الذين استشهدوا في معركة العزة في غزة قد أحيوا بدمائهم عقيدة الولاء والبراء، وأعادوا بأشلائهم الطاهرة الأخوة الإيمانية والحمية الدينية التي كادت تندرس بالشعارات الجوفاء الزائفة. لقد كانوا سببا في تحقق الجسد الواحد والأمة الواحدة والبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، بعد أن نسي الناس ذلك أو كادوا.
لقد أعادوا للأمة شيئا من هيبتها المفقودة وسيادتها المنقوصة، واقتنع كثير من ساسة الأعداء ومفكريهم أن المفاوضات يجب أن تكون معهم؛ لأنهم يمثلون حقيقة الأمة، بخلاف المرتزقة المتأكلين بقضاياها، وهذه منفعة عظيمة؛ إذ غدا الذين يسمون بالأمس إرهابيين هم الممثلون الحقيقيون لقضية بيت المقدس، وبهذا الصمود الكبير للغزاويين اقتنع المتردّدون أن الأمة تستطيع الصمود أمام سلاح الأعداء مهما كان، وأن الظلم إذا ساد الأرض فإن الحقوق لا توهب، وإنما تنتزع من الأعداء انتزاعا.
فالحمد الله الذي نصر عباده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الله العَزِيزِ الحَكِيمِ [آل عمران: 126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|