.

اليوم م الموافق ‏15/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الرياح والغبار

5932

الرقاق والأخلاق والآداب

آثار الذنوب والمعاصي

عبد العزيز بن محمد القنام

وادي الدواسر

16/6/1429

جامع النويعمة القديم

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- توالي الرياح على البلاد. 2- ضعف الإنسان. 3- ضرورة الاعتبار بالكوارث والحوادث. 4- شؤم المعاصي. 5- الريح جند من جنود الله تعالى. 6- التحذير من تحليلات الماديين لهذه الكوارث. 7- النهي عن سب الريح. 8- تأملات في الآيات الكونية في القرآن الكريم. 9- تتابع الكوارث في هذا الزمان. 10- انتشار الخبث في هذا الزمان. 11- دعوة للتوبة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن آياته في خلقه عظيمة، يراها العباد في السموات وفي الأرض وفي أنفسهم، وكلها دلائل على عظمة الله تعالى وقدرته، وعلمه وإحاطته، وعجيب صنعه وتقديره، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ [غافر: 13]، وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 81]، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصِّلت: 53].

أيها المسلمون، هذه الأيام توالت على بعض المناطق في البلاد رياح شديدة مصحوبة بأتربة كثيفة تأذى منها الناس وتضرروا، ولا تزال إلى الآن تهبّ ريح عاتية بأمر ربها, وتطاير الغبار واغبرّت الأرض وأظلمت السماء, وعاد الناس أضعف ما يكونون يتوارون في سيّاراتهم أو يكنّون في منازلهم, ومع ذلك حاصرهم الغبار وهم مختفون، ودخل إلى مساكنهم وإن كانوا لها محكمين، ونحن البشر والله ضعفاء، نحن أضعف ما يكون، الله عز وجل لما أرسل هذه الغبرة علينا عدلا منه جل وعلا، إنما أرسل جزءا يسيرا لا يعدّ ولا يذكر من جند الريح، الله جل وعلا لما أرسل على عاد الريح العقيم مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 42]، ما أرسل عليهم جل وعلا ـ كما ثبت في سنن الترمذي ـ إلا مثل فتحة الخاتم من هذه الجند، ونحن لما هبت هذه الرياح أغلق الواحد منا على نفسه أبوابه وشبابيكه، ولولا فضل الله عز وجل إذ أوجدت هذه المكيفات لمات الناس اختناقا من هذه الرياح.

عباد الله، إن من نعم الله علينا هذا الهواء الذي نتنفسه، ولشدة الحاجة إليه جعله الله مبذولا متاحا للمخلوقات في كل مكان وبدون ثمن أو مال، ولكن عندما يتلوّث هذا الهواء بالقدر الذي لا يمكن الإفادة منه فإن حال الناس تصبح صعبة وحرجة تصل ربما إلى حالات من الإغماء أو الاختناق، وتتأثّر حياتهم إذا هبّت ريح عاصف، ويرتفع عدد المرضى لا سيما أصحاب الحساسية والربو إذا تعالت حبات الغبار والأتربة، فيزيد الضرر فتكون حياة الناس في خطر.

نعم، لقد بان عجز الإنسان الضعيف عن ردها ودفع ضررها، حتى بإغلاق الأبواب والنوافذ! فهي تصل لكل مكان ولو كان مغلقا. إنها نذر ولكن أين المعتبرون؟! وآيات ولكن أين المؤمنون؟! فلنتق الله عز وجل، ما يجري الآن والله إنه لمن المُصاب، الله أكبر، ما أهون الخلق على الله! وما أعظم قدرة الله! تختلّ برامجهم لأدنى حدث كوني.

وهذه ـ أيها الإخوة ـ وقفات وحقائق وتوجيه ينبغي على المسلمين جميعا أن يتفكروا فيها، ويعيدوا النظر في مجموعها، ويستفيدوا منها في التعامل مع الكوارث والعواصف والمحن المتتابعة التي تتعرض لها البشرية كل يوم في أنحاء المعمورة؛ فالمسلم ليس كغيره من البشر، فهو يعبد ربّا واحدا مدبرا عزيزا حكيما في قضائه وتقديره، وأخذه وعطائه، يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويرسل من الآيات والعبر ما يؤدب به المجرمين، ويُطمئِن به المؤمنين، وهو فوق هذا وذاك مأمور بالاستقامة وترك الغفلة والمعصية والتقلل من الدنيا والاستعداد للآخرة وأخذ العبر والدروس من أحوال الأمم والشعوب. ألا ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! ألا ما أشد قسوة القلوب وغفلة العباد عن آيات الله وقدرته! والأخطار الجسيمة تحيط بهم من كل جانب، والفساد ظهر في البر والبحر، وربّنا يذكّرنا بآياته الدائمة والطارئة قدرتَه وأفولَ خلقه؛ لعلنا نرجع مما نحن فيه، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].

أيها المسلمون، إن المعاصي سبب الكوارث والعواصف والرياح والمحن، وطريق التعاسة والشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها وأضعفتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله أمة من الأمم إلا بذنب ومعصية، فكم دعانا القرآن الكريم ـ يا عباد الله ـ إلى الاعتبار بما حلّ بمن قبلنا وبمن حولنا لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون [العنكبوت: 40]. فتأمل ذلك المشهد المفزع في كتاب الله، يرسمه لينظر إليه من أراد العبرة: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 19-21]، فسبحان من قدَّر ذلك عليهم! وسبحان من خوَّف عباده وأنذرهم بالنذر والآيات! وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. وكل هذه وقعت ولا تزال تقع رأي العين في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تزداد كل يوم، وكما ترون اليوم ما نحن فيه من هذه الرياح والغبار.

أيها الإخوة المسلمون، إن الريح جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها دمرت المدن وهدمت المباني واقتلعت الأشجار وصارت عذابا على من حلت بدارهم. فلما عتا قوم عاد وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال جل وعلا: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 41، 42]. قال البغوي: هي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم؛ أي: كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. قال مجاهد: كالتبن اليابس. وقد سماها الله تعالى: عَاتِيَةٍ في قوله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6]، قال المفسرون: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقيل: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب. كيف لا وهي جند من جنود الله ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين كما حصل في غزوة الخندق؟! قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9]. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي الصبا كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم ـ أي: خيامهم ـ حتى أظعنتهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله : ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))، والصبا: هي الريح الشرقية، والدبور: هي الريح الغربية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر‏، فإذا مطرت سرّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة‏: فسألته‏،‏ فقال‏: ((إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)) رواه مسلم‏‏. وكان النبي إذا عصفت الريح قال‏: ((اللهم‏‏ إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به،‏ وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به)) رواه مسلم.‏ وقد قال الله عن قوم صالح عندما أرسل عليهم الريح: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب. ونقل ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن عمرو قال: (الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة؛ فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب؛ فجعله عقيما وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده؛ فيجعله صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه).

عباد الله، كما أن الرياح جند من جنود الله يسلطها على من يشاء فإنها أيضا خلق من خلق الله يسخرها لمن يشاء من عباده، قال المولى تبارك وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 81]، وقال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12]. قال قتادة: "تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار؛ فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين".

إن كثيرا من الدول والأمم والمجتمعات غالبا ما تضرب لهذه الرياح والأعاصير ألف حساب؛ فتقرأ الأحوال الجوية وتتنبأ بوقت ومكان حدوثها، وتتخذ من أجلها الاحتياطات وتشغيل الإنذارات وتجهيز الملاجئ. ومع هذا كله إلا أنها لا تتجاوزهم إلا بخسائر فادحة في الأرواح والأموال وتلفيات في الممتلكات.

وإنه مما ينبغي ـ يا عباد الله ـ الحذر منه هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة كما يسميها بعضهم: "غضب الطبيعة"! وكما يقول بعضهم: "إن هذه ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم"! كما يجرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. قال العلامة ابن عثيمين يرحمه الله: "ونحن لا ننكر أن يكون لها أسباب حسية، ولكن من الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟! إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله عز وجل، والله بحكمته جعل لكل شيء سببا؛ إما سببا شرعيا، وإما سببا حسيا. هكذا جرت سنة الله عز وجل".

أيها المسلمون، إن من الناس من يتذمر عندما يرى الريح والغبار، وربما تطاول فسبها وشتمها! وهذا أمر قد نهى عنه رسول الله حيث قال: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذا الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي، وقال: ((لا تسبوا الريح؛ فإنها من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها)) رواه أحمد وصححه الألباني.

فلنتق الله أيها المسلمون، ولنأخذ بأسباب النجاة؛ فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا، كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: (إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره).

نسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وعظوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، إنه سميع مجيب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، فاستغفروا الله العظيم الجليل الكريم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، جرَت بالأقدار أقلامُه، ومضَت في الخلائق أحكامُه، أحمده سبحانه وأشكره شكرًا يزيد به فضلُ ربّي وإِنعامه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ حقٍّ ويقين يزول بها عن القلبِ غِشاوته وظلامُه، وأشهد أنّ سيّدَنا ونبينا محمّدًا عبد الله ورسوله ببعثته ورسالته كمل الدِّين وارتفعت أعلامه، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه، صلواتٍ وسلامًا وبرَكات دائِمَاتٍ ما دام الدّهرُ ليالِيه وأيّامُه، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.

أما بعد: فيا عباد الله، لا أجد لنا وعظا ولا تذكيرا إلا بكلام الله عز وجل، أنا أقف معك في بعض الآيات وأربطها بواقعنا، لأن من لم يذكره القرآن فلا مذكّر له، من لم يعظه القرآن فلا واعظ له، فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا وبمن حولنا؛ لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها، قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: 69]، ذلك رغبة منه أن نصحح أحوالنا ونغير حالنا، لَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27]. وكم دعانا كتاب الله لننظر في قصص الأولين، ونتعظ بها، فبرغم ما كانوا عليه من قوة في الأبدان وسعة في السلطان وكان بأسهم شديدا لكنهم لما عصوا ربهم أخذهم بذنوبهم، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر: 21]، فقطع الله دابرهم، وأهلكهم عن آخرهم، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل: 52]، وتلك مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً [القصص: 58]، صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ [القمر: 38]، فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف: 4]. فيا ترى، هل نحن في مأمن وعندنا ضمان من أن يكثر الخبث فيقع البلاء وقد جاءت أشراطه وتعاقبت أسبابه؟ّ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97-99].

ولا يخفى عليكم ـ أيها المسلمون ـ ما يسود العالم اليوم من كوارث مهلكة وحوادث مفزعة وأمراض مستعصية وحروب مدمرة، تتابع كل يوم وعام، لا يهدأ ضجيجها، ولا يطفأ أوارها، ولا يخمد لهيبها، ولا ينتهي مسلسلها، إلا أن يشاء الله العزيز الحكيم، كلما عولجت منها كارثة ظهرت ثانية، وكلما أخمدت محنة ثارت ثالثة، ولا تزال نذر الله تعالى على عباده تتابع، تلك النذر والآيات التي تأتي بصور عديدة وأشكال متنوعة، فتارة عبر رياح مدمرة، وتارة عبر فيضانات مهلكة، وتارة عبر حروب طاحنة، وتارة عبر زلازل مروعة. ورأينا قبل سنوات قلائل ما فعلت الريح بأمر الله تعالى في تسونامي وكاترينا حين حركت البحر فأخرجت أمواجه العاتية أمثال الجبال لتضرب مدنا ساحلية فتغرقها، وتطمر جزرا كاملة، وتهلك بشرا كثيرا، وتتلف مالا كبيرا، وتخلف خرابا عظيما. بلدان كانت قبل الريح عامرة متحركة، تدب الحياة في أرجائها، ويأتيها البشر من كل مكان؛ لجمال أرضها وطيب أجوائها وحسن سواحلها، وفي غمضة وإفاقتها أضحت موحشة يبابا، لا ساكن فيها ولا زائر، فسبحان من خلق الريح لها! وسبحان من سخرها عليها! وسبحان من أمرها ففعلت فعلها، فأهلكت من أهلكت بأمر ربها، ونجا من نُجِّي منها؛ ليحكي للناس ما رأى، وما نجا منها بقوته وهو الضعيف، ولا هلك القوي فيها لضعفه، ولكنه أمر الله تعالى وقدره، يصيب من يشاء من عباده، وفي الأيام الماضية القليلة إعصار في جمهورية اتحاد ماينمار ـ بورما سابقًا ـ، والتي تقع في جنوب شرق آسيا، و15 بالمائة من سكانها مسلمون، أهلك إعصار ماينمار مائة ألف وعشرين ألف إنسان أو يزيدون، وابتلع مدنا وقرى كاملة، وشرّد مليونا ونصف المليون، فقدوا مساكنهم وأملاكهم في لمح البصر وقد شيدوها في سنين طويلة، والحدث الآخر زلزال عظيم في الصين دمّر المدن والقرى، وفتك بالآلاف من البشر، وصل العدد في آخر إحصائية أكثر من مائة ألف قتيل، وشرد فيه خلق كثير زلزال مدمر طمس قرى ومحاها، وشتت أسرا، واقتلع بيوتا ورماها، دمر الكثير من العمران، وذلك كله في دقائق، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65]. فكم من عمائر شاهقة سقطت على من فيها! وكم من منازل تهدمت على أصحابها! هلك فيه ألوف من البشر، فهل نعتبر بما حل بهؤلاء من القوارع والعبر؟! إذن لم لا نتّعظ بما يحدث لغيرنا، لماذا لا نغير من واقعنا؟! لماذا هذا الإصرار على معاصي الله تعالى والمجاهرة بها؟! نرى بأم أعيننا الحوادث الممروعة والعقوبات المهلكة ولا نزال نصر على معصية الجبار جلّ جلاله؟! هل بيننا وبين الله حسب أو نَسب حتى نأمن من مكره وعقوبته وعذابه ونكاله؟! ما الذي فعله ربنا حتى نعصيه ولا نطيعه؟! ألم يخلقنا؟! ألم يرزقنا؟! ألم يعافنا في أموالنا وأبداننا؟! أغرّنا حلم الحليم؟! أغرنا كرم الكريم؟! أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].

يا من تعصي الله، عد إلى ربك واتق الله، إن سلمت من عقوبته في الدنيا فإن أمامك أهوالا وصعابا، إن أمامك نعيما أو عذابا، إن أمامك مواقف موهولة، ووالله الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، لن تنفعك الضحكات، لن تنفعك الأغاني والمسلسلات والأمور التافهات، لن تنفعك الصحف والمجلات، لن ينفعك الأهل والأولاد، لن ينفعك الإخوان والأصحاب، لن تنفعك الأموال، لن تنفعك إلا الحسنات والأعمال الصالحات، والعقوبة إذا حلت عمت ولم تخص، وليس بيننا وبين الله تعالى حسب ولا نسب، وسنة الله لا تتبدل، ونسأل الله أن يعاملَنا بلطفه وعفوه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير [الشورى: 30]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46].

فكلّ هذه المصائب جرت في هذه السنة وفي مؤخرة السنة الماضية ما يجري يجعل المسلم العاقل يقف بعض الوقفات مع نفسه، لقد تغيرت أمور شتى، حتى يكاد يجتمع العالم اليوم على مصيبة واحدة، ضجت منها الشعوب، واشتكت منها الجموع، إنها مشكلة الغلاء التي استعرت فيها أسعار الغذاء والدواء والوقود والكساء، ولم يبق شيء لم يرتفع سعره إلا الهواء، ولو كان يباع لما سلم من الغلاء، وليس الغلاء إلا إحدى مشكلات عظيمة ومصائب جسيمة حلت بالعالم بأسره، مع اختلاف بينها وتنوع، أشبه أن تكون عقوبة ربانية لإعراض أكثر الناس اليوم عن عبادتهم له وشيوع الفاحشة في أقطار الأرض، وظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41]، وتجرأ العباد بإعلان المعاصي في البلاد.

نعم، إن من يتأمل في مجريات حياتنا وفي واقعنا ومعاشنا فإنه سيصاب بالرعب الرهيب والفزع الشديد بسبب ما نراه من انتهاك حرمات الله وحدوده، وتضييع وتفريط في أوامر الله تعالى وواجباته. انظر إلى حال الناس في الصلاة، كيف حالهم فيها؟! وما مدى محافظتهم على الصلاة جماعة؟! وكم الذين يواظبون على صلاة الفجر وصلاة العصر؟! وانظر إلى حال الناس مع أكل الربا والمبادرة إليه وحرصهم على المشاركة فيه؟! ألم تنتشر بنوك الربا؟! ألم تعلن الحرب على الله جل جلاله؟! ألم تدعُ إلى المساهمة فيها وبادر الناس إليها معرضين عن تهديد الله لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279]؟! ثم انظر إلى انتشار الرشوة بين الناس، والتي لعن النبي الراشي والمرتشي، فما تقضى لك حاجة ولا ينجز لك عمل حتى تقدم مبلغًا من المال، وإلا أصبحت معاملتك حبيسة الأدراج ووضع في وجهك العراقيل. وأشد من ذلك ما آل إليه حال النساء من تبرج وسفور إلى درجة عجيبة وبسرعة غريبة. ومن المصائب العظام هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم التواصي به والقيام بحقه، والذي يعتبر بوابة أمان للمجتمع من عذاب الله تعالى ومكره. ومن البلايا التي جمعت الشرور وفاقت غيرها ولم يفرح الشيطان بمثل ما فرح بها تلك الأطباق السوداء التي فعلت فعلها في الأمة من تضييع دينها وهتك أخلاقها، حتى وصل الأمر ببعض مشاهدي تلك الأطباق أن يقع أحدهم على محارمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. تعرض مشاهد في الأطباق لو رآها الحجر لتحرك فكيف بشاب مراهق في ريعان شبابه وقوة شهوته؟! فما أحلم الله! ما أحلم الله! ما أحلم الله! ولكن الله جل جلاله يمهل ولا يهمل.

إننا والله نخشى أن تنزل علينا عقوبة الله بسبب أمننا من مكر الله تعالى وعقوبته، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45، 46]. والله، إنها لعظة وعبرة يأتيهم عذاب الله وهم نائمون آمنون، وقبيل الفجر يأتيهم الزلزال، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف: 97]. تصور نفسك في تلك اللحظات ما أنت صانع؟! وما الذي يدور في خلدك؟! وما الخواطر التي تمر بفؤادك؟! لعلك رأيت تلك الطفلة الملقاة على الأرض وقد لقيت حتفها أتحب أن تكون هي ابنتك؟! أو تلك المرأة التي انهدم عليها البناء أتود أن تكون تلك المرأة هي أمك؟! هي زوجتك؟! هي أختك؟! هي بنتك؟!

ثم اعلموا أنه لا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار، هو الدافع وهو الرافع للعقوبات، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وعند أبي داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ومن كل بلاء عافية)).

فيا عباد الله، إني داع فأمّنوا، اللّهمّ إنّك تشاهدنا في سرّائنا، وتطّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلغَ بصائرنا، أسرارُنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، إن أوحشَتنا الغربةُ آنسَنا ذكرُك، وإن صُبَّت علينا المصائب لجأنا إلى الاستجارة بك، إنّنا عبيدُك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عَدلٌ فينا قضاؤك، نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين ألجأتنا المضايق الوعرَة، وأجاءتنا المقاحِط المجدِبة، وأعيتنا المطالبُ المتعسِّرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعَبة، نسألك اللهمّ إن ترفع عنا ما نحن فيه من شدة السنة والقحط وكثرة الأوبئة وتصاعد الأتربة، وعصفت بنا الرياح والحرارة المحرقة، اللهم الطف بنا وارفع عنا عذابك وارحمنا رحمة واسعة، واسقنا سُقيًا نافعة مُرويةً مُعْشِبةً، تنبتُ بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافِعةَ الحيا، كثيرةَ المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البُطنان، وتستورق الأشجار، وترخِص الأسعار، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا يا عزيز يا غفار...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً