.

اليوم م الموافق ‏19/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

نعمة التوحيد ومحاولات إحياء الوثنية

5930

التوحيد, قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات, الشرك ووسائله

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

9/3/1430

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أعظم النعم. 2- أهمية التوحيد وفضله. 3- انتشار التوحيد في بلاد الحرمين. 4- التحذير من تعظيم القبور والآثار. 5- بقاء الشرك في هذه الأمة. 6- التحذير من دعوات إحياء آثار النبي .

الخطبة الأولى

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَإِذَا ذُكِرَت نِعَمُ اللهِ وَعُدَّت فَإِنَّ أَجَلَّها وَأَفضَلَهَا تَوحِيدُ اللهِ وَإِفرَادُهُ بِالعِبَادَةِ؛ إِذ هِيَ النِّعمَةُ الَّتي لا أَعظَمَ مِنهَا وَلا أََتَمَّ، إِنَّهَا النِّعمَةُ الَّتي تَتَصَاغَرُ أَمَامَهَا كُلُّ النِّعَمِ، وَالمِنَّةُ الَّتي مَن فَقَدَهَا حَلَّت بِهِ النِّقَمُ، إِنَّهُ الغَايَةُ مِن خَلقِ الجِنِّ وَالإِنسِ، بِهِ أُرسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنزِلَتِ الكُتُبُ، وَلأَجلِهِ نُصِبَتِ المَوَازِينُ وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَانقَسَمَتِ الخَلِيقَةُ إِلى مُؤمِنِينَ وَكُفَّارٍ، وَعَلَيهِ يَقَعُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَعَلَيهِ نُصِبَتِ القِبلَةُ وَأُسِّسَتِ المِلَّةُ، وَلأَجلِهِ جُرِّدَت سُيُوفُ الجِهَادِ، وَهُوَ حُقُّ اللهِ عَلَى جميعِ العِبَادِ، قَالَ تَعَالى: وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: كِتَابٌ أُحكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.

بِالتَّوحِيدِ تُفَرَّجُ الكُرُبَاتُ وَتُدفَعُ العُقُوبَاتُ، وَبِتَحقِيقِهِ يَحصُلُ الهُدَى وَالأَمنُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَيَسلَمُ العَبدُ مِنَ الخُلُودِ في النَّارِ، وَيَنَالُ شَفَاعَةَ الحَبِيبِ ، قَالَ سُبحَانَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لهمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَسعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِن قَلبِهِ)). مَا مِن فَضِيلَةٍ إِلاَّ وَأَسَاسُهَا التَّوحِيدُ، بِهِ يَسهُلُ عَلَى العَبدِ فِعلُ الخَيرَاتِ وَتَركُ المُنكَرَاتِ، وَهُوَ سَلوَةُ المُؤمِنِ عِندَ الأَحزَانِ وَالمُصِيبَاتِ، وَبِهِ يَصِيرُ قَلِيلُ العَمَلِ عِندَ اللهِ كَثِيرًا، وَيَغدُو صَغِيرُهُ في المِيزَانِ كَبِيرًا، وَبِهِ يَتَحَرَّرُ المُسلِمُ مِن رِقِّ المَخلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بهم وَالعَمَلِ لأَجلِهِم، فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِنهُ للهِ، فَلا يَرجُو سِوَاهُ وَلا يَخشَى غَيرَهُ، وَلا يُنِيبُ إِلاَّ إِلَيهِ وَلا يَتَوَكَّلُ إِلاَّ عَلَيهِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ فَلاحُهُ وَيَتَحَقَّقُ نَجَاحُهُ، وَيَحصُلُ لَهُ العِزُّ وَالتَّأيِيدُ وَالشَّرَفُ، وَيَنَالُ القُوَّةَ وَالرِّفعَةَ وَالمَنَعَةَ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا تَنعَمُ بِهِ هَذِهِ البِلادُ مِن صَفَاءِ التَّوحِيدِ وَنَقَاءِ المُعتَقَدِ في كَثِيرٍ مِن جِهَاتِهَا قَد أَقَضَّ مَضَاجِعَ المُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِينَ، وَكَدَّرَ الصَّفوَ عَلَى المُبتَدِعَةِ وَالمُخَرِّفِينَ، فَبَرَزَت مِنهُم في السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ أَصوَاتٌ وَكِتَابَاتٌ وَمُحَاولاتٌ، أَصوَاتٌ ضَالَّةٌ وَكِتَابَاتٌ مُضِلَّةٌ، تَنُوحُ عَلَى مَا وَفَّقَ اللهُ أَهلَ هَذِهِ البِلادِ إِلى هَدمِهِ وَالقَضَاءِ عَلَيهِ مِن أَنصَابِ الشِّركِ وَمَشَاهِدِهِ، وَمُحَاوَلاتٌ لِلعَودَةِ بِالأُمَّةِ إِلى الشِّركِ بَعدَ إِذ أَنقَذَهَا اللهُ مِنهُ، وَذَلِكَ بِإِحيَاءِ أَعمَالٍ شِركِيَّةٍ وَبَعثِ بِدَعٍ كُفرِيَّةٍ، وَالمُنَادَاةِ بِالبِنَاءِ عَلَى القُبُورِ وَإِبرَازِ الآثَارِ القَدِيمَةِ، وَجَعلِهَا مَزَارَاتٍ مُعَظَّمَةً وَأَمَاكِنَ مُبَجَّلَةً، حَتى وَصَلَ الأَمرُ إِلى إِعلانِ الشِّركِ وَإِظهَارِ الكُفرِ في مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ وَبِجَوَارِ قَبرِهِ.

وَلَقَدِ اتَّفَقَت كَلِمَةُ الأُمَّةِ عَلَى التَّحذِيرِ مِن تَعظِيمِ القُبُورِ مِن لَدُن نَبِيِّهَا وَصَحَابَتِهِ الكِرَامِ وَالتَّابِعِينَ، مُرُورًا بِالعُلَمَاءِ الأَثبَاتِ وَالأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ، الَّذِينَ مَنَعُوا مِن إِسرَاجِ القُبُورِ وَإِضَاءَتِهَا وَاتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عِندَهَا، قَالَ : ((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، وَعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ في مَرَضِهِ الَّذِي لم يَقُمْ مِنهُ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: لَمَّا كَانَ مَرَضُ النَّبيِّ تَذَاكَرَ بَعضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً بِأَرضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لها: مَارِيَةُ، وَقَد كَانَت أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ قَد أَتَتَا أَرضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرنَ مِن حُسنِهَا وَتَصَاوِيرِهَا، قَالَت: فَرَفَعَ النَّبيُّ رَأسَهُ فَقَالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرُّجُلُ الصَّالحُ بَنَوا عَلَى قَبرِهِ مَسجِدًا ثم صَوَّرُوا تِلكَ الصُّوَرَ، أُولِئَكَ شِرَارُ الخَلقِ عِندَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ))، وَقَالَ : ((إِنَّ مِن شِرَارِ النَّاسِ مَن تُدرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُم أَحيَاءٌ، وَمَن يَتَّخِذُ القُبُورَ مَسَاجِدَ)).

قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رَحمهُ اللهُ: "يَحرُمُ الإِسرَاجُ عَلَى القُبُورِ وَاتِّخَاذُ المَسَاجِدِ عَلَيهَا وَبَينَهَا، وَيَتَعَيَّنُ إِزَالَتُهَا، وَلا أَعلَمُ فِيهِ خِلافًا بَينَ العُلَمَاءِ المَعرُوفِينَ"، وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: "وَالشِّركُ في بَني آدَمَ أَكثَرُهُ عَن أَصلَينِ: أَوَّلُهُمَا: تَعظِيمُ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَتَصوِيرُ تَمَاثِيلِهِم لِلتَّبَرُّكِ بها، وَهَذَا أَوَّلُ الأَسبَابِ الَّتي بها ابتَدَعَ الآدَمِيُّونَ، وَهُوَ شِركُ قَومِ نُوحٍ". وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ في زَادِ المَعَادِ بَعدَ أَن ذَكَرَ قِصَّةَ مَسجِدِ الضِّرَارِ وَهَدمهُ لَهُ وَحَرقهُ، قَالَ رَحمهُ اللهُ: "وَكُلُّ مَكَانٍ هَذَا شَأنُهُ فَوَاجِبٌ عَلَى الإِمَامِ تَعطِيلُهُ إِمَّا بِهَدمٍ أَو تَحرِيقٍ، وَإِمَّا بِتَغيِيرِ صُورَتِهِ وَإِخرَاجِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأنَ مَسجِدِ الضِّرَارِ فَمَشَاهِدُ الشِّركِ الَّتي تَدعُو سَدَنَتُهَا إِلى اتِّخَاذِ مَن فِيهَا أَندَادًا مِن دُونِ اللهِ أَحَقُّ بِذَلِكَ وَأَوجَبُ، وَكَذَلِكَ مَحَالُّ المَعَاصِي وَالفُسُوقِ كَالحَانَاتِ وَبُيُوتِ الخَمَّارِينَ وَأَربَابِ المُنكَرَاتِ"، إِلى أَن قَالَ: "وَمِنهَا أَنَّ الوَقفَ لا يَصِحُّ عَلَى غَيرِ بِرٍّ وَلا قُربَةٍ، كَمَا لم يَصِحَّ وَقفُ هَذَا المَسجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَيُهدَمُ المَسجِدُ إِذَا بُنِيَ عَلَى قَبرٍ، كَمَا يُنبَشُ المَيِّتُ إِذَا دُفِنَ في المَسجِدِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ، فَلا يَجتَمِعُ في دِينِ الإِسلامِ مَسجِدٌ وَقَبرٌ، بَل أَيُّهَمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مَنَعَ مِنهُ وَكَانَ الحُكمُ لِلسَّابِقِ، فَلَو وُضِعَا مَعًا لم يَجُزْ، وَلا يَصِحُّ هَذَا الوَقفُ وَلا يَجُوزُ، وَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ في هَذَا المَسجِدِ لِنَهيِ رَسُولِ اللهِ عَن ذَلِكَ وَلَعنِهِ مَنِ اتَّخَذَ القَبرَ مَسجِدًا أَو أَوقَدَ عَلَيهِ سِرَاجًا، فَهَذَا دِينُ الإِسلامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ" اِنتَهَى كَلامُهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَقَد يَظُنُّ بَعضُ الجَهَلةِ أَنَّ الشِّركَ قَد زَالَ مِن الأُمَّةِ وَانقَطَعَ، وَأَنَّهُ لا رَجعَةَ لَهُ بَعدَ انتِشَارِ العُلُومِ وَاستِنَارَةِ العُقُولِ بها، فَيَرَونَ أَنَّهُ لا بَأسَ بِالبِنَاءِ عَلَى المَشَاهِدِ وَالآثَارِ وَالقُبُورِ، بَلْ ويَدعُونَ إِلى إِبرَازِهَا وَجَعلِهَا أَمَاكِنَ وَطَنِيَّةً وَمَزَارَاتٍ سِيَاحِيَّةً، وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ وَوَهمٌ بَارِدٌ، لا مُستَنَدَ لَهُ وَلا مُؤَيِّدَ لَهُ في الوَاقِعِ، إِذْ مَا زَالُ الشِّركُ ضَارِبًا أَطنَابَهُ حَتى في بَعضِ البِلادِ الإِسلامِيَّةِ، فَثَمَّةَ السُّجُودُ لِلقُبُورِ وَالطَّوَافُ حَولَهَا وَتَقدِيمُ النُّذُورِ لها، وَاستِقبَالُهَا بِالصَّلاةِ وَالسُّجُودُ عِندَهَا، وَدُعَاءُ أَصحَابِهَا مِن دُونِ اللهِ وَالتَّوَسُّلُ بهم، عَلَى أَنَّهُ لَو فُرِضَ أَنَّ الأَرضَ قَد طَهُرَت مِن الشِّركِ وَالوَثَنِيَّةِ عَلَى اختِلافِ أَنوَاعِهَا فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الوَسَائِلِ الَّتي يُخشَى أَن تُؤَدِّيَ إِلى الشِّركِ، خَاصَّةً بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ، أَوِ التَّبَرُّكَ بِهَا أَوِ التَّوَسُّلَ بها أَوِ الأَخذَ مِن تُرَابِهَا، أَوِ الزِّيَارَاتِ البِدعِيَّةَ لها، أَوِ الإِنشَادَ عِندَهَا أَو نَحوَ ذَلِكَ ممَّا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ وَحَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنهُ، كَيفَ إِذَا ضُمَّ إِلى ذَلِكَ مَا أَخبَرَ بِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِن أَنَّ الشِّركَ سَيَقَعُ في هَذِهِ الأُمَّةِ في آخِرِ الزَّمَانِ؟! قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تَلحَقَ قَبَائِلُ مِن أُمَّتي بِالمُشرِكِينَ، وَحَتى تَعبُدَ قَبَائِلُ مِن أُمَّتي الأَوثَانَ)).

وَإِنَّ مَا يَدعُو إِلَيهِ بَعضُ الصُّوفِيَّةِ وَالمُنخَدِعِينَ بهم في هَذَا الزَّمَانِ مِن إِحيَاءِ آثَارِ النَّبيِّ المَكَانِيَّةِ أَو آثَارِ الصَّحَابَةِ أَو غَيرِ ذَلِكَ ممَّا يُسمَّى بِالآثَارِ الإِسلامِيَّةِ، إِنَّهَا لَفِتنَةٌ يَجِبُ التَّنَبُّهُ لها وَالحَذَرُ مِنَ الانسِيَاقِ وَرَاءَ أَهلِهَا وَالدَّاعِينَ إِلَيهَا، إِذْ مَا هِيَ في الحَقِيقَةِ إِلاَّ طَرِيقٌ لِلشِّركِ وَوَسِيلَةٌ لِلكُفرِ، وَسَبَبٌ لِلعَودَةِ إِلى الخُرَافَاتِ وَالوَثَنِيَّةِ، وَقَد لَحَظَ السَّلَفُ هَذَا الأَمرَ فَحَذَّرُوا مِنهُ وَقَطَعُوا كُلَّ سَبِيلٍ إِلَيهِ، فعَنِ المَعرُورِ بنِ سُوَيدٍ الأَسدِيِّ قَالَ: وَافَيتُ المَوسِمَ مَعَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَلَمَّا انصَرَفَ إِلى المَدِينَةِ وَانصَرَفتُ مَعَهُ صَلَّى لَنَا صَلاةَ الغَدَاةِ فَقَرَأَ فِيهَا: أَلم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَابِ الفِيلِ، وَلإِيلافِ قُرَيشٍ، ثم رَأَى أُنَاسًا يَذهَبُونَ مَذهَبًا فَقَالَ: أَينَ يَذهَبُ هَؤُلاءِ؟ قَالُوا: يَأتُونَ مَسجِدًا هَا هُنَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ، فَقَالَ: إِنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم بِأَشبَاهِ هَذِهِ، يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَنبِيَائِهِم فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، وَمَن أَدرَكَتهُ الصَّلاةُ في شَيءٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ الَّتي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَلا يَتَعَمَّدَنْهَا. وَعَن نَافِعٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أَن نَاسًا يَأتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتي بُويِعَ تَحتَهَا فَأََمَرَ بها فَقُطِعَت.

قَالَ شَيخُ الإِسلامِ رَحمهُ اللهُ: "كَانَ أَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ وَعُثمَانُ وَعَلِيٌّ وَسَائِرُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ يَذهَبُونَ مِنَ المَدِينَةِ إِلى مَكَّةَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا وَمُسَافِرِينَ، وَلم يُنقَلْ عَن أَحَدٍ مِنهُم أَنَّهُ تَحَرَّى الصَّلاةَ في مُصَلَّيَاتِ النَّبيِّ ، وَمَعلُومٌ أَنَّ هَذَا لَو كَانَ عِندَهُم مُستَحَبًّا لَكَانُوا إِلَيهِ أَسبَقَ، فَإِنَّهُم أَعلَمُ بِسُنَّتِهِ وَأَتبَعُ لها مِن غَيرِهِم". وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّ النَّبيَّ بَعدَ أَن أَكرَمَهُ اللهُ بِالنُّبُوَّةِ لم يَكُنْ يَفعَلُ مَا فَعَلَهُ قَبلَ ذَلِكَ مِنَ التَّحَنُّثِ في غَارِ حِرَاءٍ أَو نَحوِ ذَلِكَ، وَقَد أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعدَ النُّبُوَّةِ بِضعَ عَشرَةَ سَنَةً، وَأَتَاهَا بَعدَ الهِجرَةِ في عُمرَةِ القَضِيَّةِ وَفي غَزوَةِ الفَتحِ وَفي عُمرَةِ الجِعرَانَةِ وَلم يَقصِدْ غَارَ حِرَاءٍ، وَكَذَلِكَ أَصحَابُهُ مِن بَعدِهِ، لم يَكُنْ أَحَدٌ مِنهُم يَأتي غَارَ حِرَاءٍ". وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ أَيضًا: "وَكَذَلِكَ قَصدُ الجِبَالِ وَالبِقَاعِ الَّتي حَولَ مَكَّةَ غَيرَ المَشَاعِرِ عَرَفَةَ وَمُزدَلِفَةَ وَمِنًى، مِثلِ جَبَلِ حِرَاءٍ وَالجَبَلِ الَّذِي عِندَ مِنًى الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ قُبَّةُ الفِدَاءِ وَنَحوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ زِيَارَةُ شَيءٍ مِن ذَلِكَ، بَل بِدعَةٌ".

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لا يَخفَى مَا كَانَ عَلَيهِ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ وَمَن بَعدَهُم مِنَ التَّابِعِينَ وَالعُلَمَاءِ مِن اهتِمَامٍ بِالآثَارِ الفِعلِيَّةِ وَالقَولِيَّةِ لِلمُصطَفَى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حَيثُ أَفنَوا أَعمَارَهُم مِن أَجلِ المُحَافَظَةِ عَلَيهَا، وَقَطَعُوا القِفَارَ وَكَابَدُوا مَشَقَّةَ الأَسفَارِ، وَوَاصَلُوا سَهَرَ اللَّيلِ بِتَعَبِ النَّهَارِ، وَبَلَغَ مِن حِرصِهِم عَلَى تَتَبُّعِ آثَارِهِ القَولِيَّةِ وَالفِعلِيَّةِ أَن نَقَلُوا شُؤُونَهُ الزَّوجِيَّةَ وَأَسرَارَ بَيتِهِ، في غُسلِهِ وَوُضُوئِهِ، وَفي أَكلِهِ وَشُربِهِ، وَفي نَومِهِ وَاستِيقَاظِهِ، وَمَعَ كُلِّ هَذا فَلَم يُعرَفْ عَنهُم تَتَبُّعُ آثَارِهِ المَكَانِيَّةِ وَالعَينِيَّةِ وَالاهتِمَامُ بها، أَو تَشيِيدُهَا أَو جَعلُهَا مَزَارَاتٍ تُؤتَى أَو تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيهَا، قَالَ الشَّيخُ ابنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَمَعلُومٌ أَنَّ أَصحَابَ النَّبيِّ وَرَضِيَ اللهُ عَنهُم أَعلَمُ النَّاسِ بِدِينِ اللهِ وَأَحَبُّ النَّاسِ لِرَسُولِ اللهِ وَأَكمَلُهُم نُصحًا للهِ وَلِعِبَادِهِ، وَلم يُحيُوا هَذِهِ الآثَارَ وَلم يُعَظِّمُوهَا وَلم يَدعُوا إِلى إِحيَائِهَا، وَلو كَانَ إِحيَاؤُهَا أَو زِيَارَتُهَا أَمرًا مَشرُوعًا لَفَعَلَهُ النَّبيُّ في مَكَّةَ وَبَعدَ الهِجرَةِ، أَو أَمَرَ بِذَلِكَ أَو فَعَلَهُ أَصحَابُهُ أَو أَرشَدُوا إِلَيهِ".

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحذَرُوا دُعَاةَ الضَّلالَةِ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِليَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.

 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَعَضُّوا عَلَى التَّوحِيدِ بِالنَّوَاجِذِ حَتى تَلقَوا رَبَّكُم عَلَيهِ، وَاحذَرُوا ممَّا يُرَوِّجُ لَهُ أَعدَاءُ اللهِ مِنَ الرَّافِضَةِ المَخذُولِينَ أَوِ الصُّوفِيَّةِ المُخَرِّفِينَ، وَلا تَغتَرُّوا بِزَعمِهِم مَحَبَّةَ رَسُولِ اللهِ أَو تَعظِيمَ آلِ بَيتِهِ، حَيثُ يُقِيمُونَ المَوَالِدَ وَيُحيُونَ المَشَاهِدَ، وَيُعَظِّمُون القُبُورَ وَيُقَدِّمُونَ لها النُّذُورَ، وكُلُّ ذَلِكَ بِدَعٌ وَمُحدَثَاتٌ، لم يَأذَنْ بِهَا اللهُ وَلا رَسُولُهُ، وَلم يَفعَلْهَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلا الصَّحَابَةُ المَرضِيُّونَ، وَلم يَصنَعْها أَهلُ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ، وَمَن فَعَلَهَا فَإِنما هُوَ تَابِعٌ لِلمَغضُوبِ عَلَيهِم وَالضَّالِّينَ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللهُ أَن نَدعُوَهُ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِنَا أَن يُجَنِّبَنَا طَرِيقَهُم، وَحَذَّرَنَا نَبِيُّنَا مِن اتِّبَاعِ سَنَنِهِم، فَأَبى الرَّافِضَةُ وَالصُّوفِيَّةُ إِلاَّ أَن يَتَّبِعُوهُم وَيُقَلِّدُوهُم، فَيُقِيمُوا المَوَالِدَ وَيَتَعَلَّقُوا بِالمَشَاهِدِ، فَيَبُوؤُوا بِإِثمِهِم وإِثمِ مَن تَبِعَهُم في ذَلِكَ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((وَمَن دَعَا إِلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإِثمِ مِثلُ آثَامِ مَن تَبِعَهُ لا يَنقُصُ ذَلِكَ مِن آثَامِهِم شَيئًا)).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً