أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى وطاعته؛ فاتقوا الله حق التقوى، وأسلموا له وجوهكم، وعلقوا به قلوبكم؛ فإن الخلق مهما كانت كثرتهم وقوتهم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا رزقا، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ [الأنعام: 18].
أيها الناس، من طبيعة البشر أن قلوبهم تتعلق بأهل العز والقوة والقهر والغلبة والمال والجاه، وتنجذب النفوس نحوهم، ويركن الناس إليهم، ويذلون لهم، ويخضعون لقوتهم وغلبتهم؛ لأنهم يبتغون منهم نفعا، أو يخافون منهم ضرا، وهذا التعلق بهم يبقيهم في دركات الذل والمهانة، وأسر الانبهار والتبعية، واستلاب العزة الكرامة، ونزع القوة والمهابة، فتؤكل حقوقهم، وتسلب إرادتهم، ويستباح حماهم، ويبلغ بهم الذل والهوان إلى حدِّ أنهم يقدّسون من يفعلون ذلك بهم، كما يقع ذلك في عصرنا، ويقع في كل زمان ومكان.
ولذا نجد أن دين الله تعالى يربي المؤمنين على تعليق قلوبهم بالله تعالى، وتوكلهم عليه دون سواه، وتجريد العبودية له لا لغيره، ويغرس فيهم معاني العزة والأنفة والقوة، ويعدهم التوفيق والظفر إن هم أعزوا أنفسهم أمام غيرهم، ويحذرهم الفشل والخذلان إن هم ذلوا لغيره سبحانه.
إن العزة والقدرة والقهر والقوة هي من صفات الله تعالى التي يُقرُّ بها أهل الإيمان، وتمر بهم كثيرا في كتاب الله تعالى؛ فربنا جل جلاله على كل شيء قدير، وهو بكل شيء محيط، وهو العليم الحكيم، وهو القوي العزيز؛ لم تقف قوة أمام قَدَره، ولم تصمد أمةٌ أمام عذابه، قال قوم عاد: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصِّلت: 15]، فأهلكهم بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقَّة: 6]، وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، فأخذه الله تعالى وجنده فأغرقهم أجمعين، وقال قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78]، فخسف الله تعالى به وبداره الأرض، وأغرق سبحانه قوم نوح عليه السلام، وأخذ ثمود بالصيحة، وقوم شعيب عليه السلام بعذاب يوم الظلة، وقَلَبَ على قوم لوط عليه السلام ديارهم، وأتبعهم بحجارة من سجيل، ونجَّى يوسف عليه السلام من الهلاك في الجب، ومن بلاء السجن، ورفع مكانه، وأعز مقامه، فجعله على خزائن الأرض، يأمر وينهى، ويقسم للناس أرزاقهم، ويعطيهم أقواتهم.
كان ربنا سبحانه ولا يزال يعز ويذل، ويرفع ويضع، ويغني ويفقر، ولا يُسأل عما يفعل، قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26].
وإذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه ومصير العباد إليه وآجالهم وأرزاقهم عنده بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة لا يملكها أحد سواه عز وجل وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ [التوبة: 51].
فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17]، وفي آية أخرى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11].
والعزة له سبحانه وتعالى كما في القرآن: إِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا [يونس: 65]، وفي السنة كان النبي يقول: ((أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الذي لا إِلَهَ إلا أنت الذي لا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ)) رواه الشيخان، وتُبتغى العزة منه سبحانه، ولا يقدر عليها غيره، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصَّافات: 180].
لا يملكها الكفار لأتباعهم وحلفائهم مهما كانت قوتهم وكَثُر جمعهم وبلغت حضارتهم، مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]. ولا يبتغي العزة من الكفار إلا المنافقون كما قال تعالى فيهم: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا [النساء: 139]. ولما قال رأس المنافقين: لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ قال الله تعالى: وَلله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
والقوة والغلبة لله تعالى يمنحها من يشاء ولو كانوا قلة مستضعفين أذلة مستضامين، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله [البقرة: 249]، وقال النبي وهو يصلي: ((الله أَكْبَرُ ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ))، ونَصَرَ الله تعالى أهل بدر وهم الأقل والأضعف، وكان عدوهم أكثر وأقوى، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123].
وإذا شاء الله سبحانه سلب القوة من الأقوياء فنكأ فيهم الضعفاء، وقد وقع ذلك كثيرا، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ [الذاريات: 58]، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
والذين لجؤوا إلى غير الله تعالى يبتغون القوة والغلبة منهم ما نفعوهم من الله تعالى شيئا، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ [البقرة: 165].
وتَعَلُقُ القلب بالله وحده واللجوءُ إليه سبحانه هو سبيل الرسل الكرام عليهم السلام، وبه نُصروا على أعدائهم، وأظهرهم الله تعالى في الأرض، وكتب لهم العزة والغلبة، وجعل العاقبة لهم. ولما ابتُلي موسى عليه السلام بأقوى سلطة وأعتى طاغية وخشي المؤمنون من أتباعه الهلكة كان موسى عليه السلام قد علق قلبه بالله تعالى في تلك الساعة الحرجة، فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61، 62]، فنجاه الله تعالى والمؤمنين معه، وأهلك فرعون وجنده.
ونبينا محمد وصحابته رضي الله عنهم لما اجتمع عليهم كَلَب الكافرين وتخذيل المنافقين وكيد اليهود قابلوا ذلك بالتوكل على الله تعالى وعدم التنازل عن شيء من دينهم، وعلقوا قلوبهم بربهم عز وجل، فكفاهم الله تعالى شر أعدائهم، وكتب العز والغلبة لهم، وقد جاء ذكر ذلك في قرآن يتلى إلى يوم القيامة: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173، 174].
نسأل الله تعالى أن يمن علينا بما من به عليهم من صدق الإيمان به، والتوكل عليه، واللجوء إليه، وإسلام القلب له وحده لا شريك له، ونعوذ بالله تعالى من الخذلان، ولا عز ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|