أما بعد: فاتقوا الله تعالى وآمنوا به، والتزموا دينه، والزموا طاعته، واعلموا أنه عز وجل ربُكم وأنتم عبيده، وأنه سبحانه قادر عليكم وأنتم عاجزون عنه، وأنه تعالى غني عنكم وأنتم مفتقرون إليه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17].
أيها المسلمون، من رحمة الله تعالى بنا وهدايته لنا وتعليمه إيِّانا أن ميَّز لنا أعداءنا من إخواننا، وبيَّن لنا من يغشنا ممن ينصح لنا، وحذَّرنا ممن لا يريد الخير بنا، وأوضح لنا المنهج القويم في التعامل مع الآخرين، مما لا نحتاج معه إلى اجتهادات مجتهدين، ولا تخبطات منظرين وسياسيين، ولا استنتاجات إعلاميين ومحللين؛ فكلام ربنا جل جلاله هو مصدر علمنا بالصواب، وهو سبب هدايتنا للحق، وهو سبيل تحصيل النفع ودفع الضر، وهو مصدر العز ورفع الذل، فخبره سبحانه صدق، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثًا [النساء: 87]، وقوله عز وجل حق، لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس: 94]، ويهدينا لما هو أصلح لنا، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، فلا قولَ لأحد مع قول الله تعالى، ولا حكم إلا له سبحانه، ولا مرجعَ عند التنازع إلا إليه، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]
فما أحوج المسلمين إلى هدايات الكتاب العزيز في زمنٍ كثر فيه الدجل على الناس، وأخفيت الحقائق، ومورست أبشع ألوان المسخ العقلي والطمس العقائدي والتزوير الإعلامي وإضلال الناس بشعارات جوفاء وأمانٍ كاذبة وأحلام خادعة وظنون كاسدة، لا تغني من الحق شيئا، ولا يركن إليها إلا أهل العجز والخور، من نحو قولهم: "فن التعامل مع الآخر"، و"التعايش السلمي"، و"الأخوة الإنسانية"، وغيرها من الشعارات التي اخترعها الكافرون، وسوّق لها المنافقون، فاقتنع بها الجاهلون المخدوعون! مع مصادمتها لكلام ربنا جل جلاله، ومباينتها لتاريخ المسلمين مع غيرهم، ولا سيما أهل الكتاب، ومجافاتها لما عشناه من أحداث ونكبات.
فربنا جل جلاله أخبرنا أن الكافرين أعداء لنا: إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]، وأن أهل الكتاب منهم يحسدوننا على ديننا، ويريدون ردتنا عنه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ [البقرة: 109]، وأنهم لن يرضوا حتى يحولونا من إيماننا إلى يهوديتهم ونصرانيتهم المحرفتين كما كانوا يفعلون قديما، أو إلى إلحادهم وعلمانيتهم كما في عصرنا هذا: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، كما يخبرنا ربنا عز وجل أن من طبيعة الكفار إن كانت لهم الغلبة إرهاب المؤمنين ومعاداتهم في الدين وإكراههم على الكفر: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف: 20]، وفي الآية الأخرى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2].
تلك هي حقيقة الكافرين التي يخبرنا بها ربنا وهو عز وجل أعلم بنا وبهم؛ إذ إنه سبحانه وتعالى خالقنا وخالقهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14].
ثم رأينا في السير والتاريخ كمًّا هائلا من الأحداث والوقائع الدالة على ما قرأنا في القرآن الكريم من عداوة الذين كفروا للذين آمنوا، وأنها عداوة أبدية دينية، ابتداءً من مشركي مكة ويهود يثرب، ونصارى الشام، ومجوس فارس، في عهد الرسالة ثم عهد الصحابة، ومرورا بنكبات المسلمين في الأندلس، والحملات الصليبية الكبرى التي أُبيد المقادسة في الأولى منها، وانتهاءً بالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين إبَّان إسقاطهم الخلافة العثمانية.
ثم عشنا واقعا مؤلما مريرا، أدرك أكثرنا مجازر اليهود في فلسطين ولبنان وسيناء والجولان، وأبصرنا وحشية نصارى روسيا في بلاد الأفغان والشيشان، ورأينا كيف افترس نصارى صربيا البوسنة ثم كوسوفا، ثم رأينا الدولة الأولى في الظلم والطغيان تبتلع عاصمة بني العباس، ولولا لطفُ الله تعالى بعباده لجاوزوها إلى غيرها، ولكن فشلهم كبح جماحَ نزواتهم الدموية الحيوانية.
أتعجبون ـ يا أيها المؤمنون ـ بعد حوادثِ التاريخ الكثيرة وأحداثِ الواقع الأليمة وقبل ذلك وبعده كتاب ربنا الذي هو الصدق والحق، أتعجبون إن حاول اليهود ومِنْ ورائهم عبادُ الصليب قتل إخواننا في غزةَ صَبْرًا بقطع أسباب الحياة عنهم وهي: الغذاء والدواء والطاقة، حتى يموت منهم من يموت. وهذا القتل هو أشد أنواع القتل؛ لأن الضحية فيه يعذب قبل أن يموت، ويقتل ببطء شديد، وقد جاءت الشريعة بمنع تصبير البهائم، فكيف إذَن ببني آدم؟!
وما حصارُ غزة إلا مثالٌ واحد من أمثلة لا تكاد تحصى من عداوة الكافرين للمؤمنين، وأنهم لا يريدون إلا الشر بالإسلام وأهله، وأنهم متى تمكنوا من المسلمين فلن يرحموا فيهم طفلا ولا امرأة ولا شيخا مسنا ولا مريضا عاجزا، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ [التوبة: 10].
لقد كان من ضمن مشروعات الدولة المستكبرة الطاغية نشر الديمقراطية في المنطقة، فرأينا رأي العين ما فعلوه في العراق من الظلم والبطش وهتك الأعراض وقتل المستضعفين وزرع الجوع والخوف فيه. ثم رأيناهم ومِنْ خلفهم أوروبا المتحضرة ينحرون ديمقراطيتهم التي يدعون إليها، ويهتفون بها في فلسطين، فيخنقون شعبا بكامله لأنه اختار من لا يريدون، ولم يصوت للخونة من عملائهم وأخدانهم.
لقد ملؤوا العالم ضجيجا بالشعارات الإنسانية وحفظ حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأطفال وحقوق المرضى، وها هم يقتلونهم صبرا في غزة، فأين هي الشعارات؟! وأين ما به يهتفون وينادون؟! تلك هي حقيقة الكفار ولكن أكثر الناس لا يعقلون.
أما المنافقون فإنهم قد أعانوا على هذا الظلم العظيم، وشاركوا اليهود والنصارى في خنق المسلمين في غزة، وتلطخت أيديهم بدماء من يزعمون أنهم منهم، وظهر المنظِّرون منهم كعادتهم على شاشات التلفزة وأعمدة الصحف ليُسوّغوا هذه الجريمة النكراء، فيجلدوا الضحية، ويدافعوا عن المجرم، ويتهموا من لا يوافقهم في عمالتهم ونفاقهم بالعاطفية وعدم الواقعية والبعد عن العقلانية.
إن هؤلاء المنافقين يحسنون الظنّ بالأعداء أكثر من يقينهم بالله تعالى، ويصدّقونهم أكثر مما يصدقون القرآن والسنة، ولا يأبهون بما حفظه التاريخ، ولا بما أثبته الواقع المؤلم من عداوة الكافرين للمؤمنين، فأين هي الواقعية؟! وأين العقلانية؟!
إنّ التاريخ يخالفهم، وأحداث الواقع تكذّبهم، ومن يطبلون لهم ويدافعون عنهم من الأعداء يحتقرونهم، فلا يلقون لهم بالا، ولا يرفعون بهم رأسا، ولا يأخذون منهم رأيا، مع كثرة تسوّلهم على أبوابهم وارتمائهم تحت أحذيتهم.
إن المنافقين يرمون مخالفيهم بالعاطفية؛ ليقللوا من أهميتهم، وليضفوا على خبالهم وضياعهم شيئا من الشرعية، وتالله إنه لا خير في أفراد لا عاطفة فيهم تجاه أمتهم وإخوتهم في الدين.
وإذا أراد المنافقون إسكات من يجادلونهم اتهموهم بأنهم مؤدلجون، وينطلقون من فكر المؤامرة، حتى أضحى كثير ممن يخافون سطوتهم الإعلامية وإرهابهم الفكري يفتتحون مقالاتهم بنفي أنهم ينطلقون من فكر المؤامرة، وأنهم بعيدون عن القول بذلك. سبحان الله يا عباد الله! ربنا جل جلاله يخبرنا أن الأعداء متآمرون علينا، وأنهم يجتمعون ضدنا، ويجمعون إبادتنا، ويوالي بعضهم بعضا في سبيل محونا وديننا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73]، والمنافقون ينكرون ذلك، والضعفاء يخشون إرهابهم الفكري فينفون تآمر الكافرين على المؤمنين، فما هم؟! وكيف يفكرون؟!
إن المنافقين لا يملكون حادثة واحدة ـ لا في القديم ولا في الحديث ـ نصحت فيها أمة الكفر للمؤمنين، وكانت نصيحتها خالصة لا مصلحة لها فيها؛ بل تاريخ الكفار حافل بالظلم والطغيان والنكاية بالمؤمنين، وفي هذا العصر تتولى منظماتهم الدولية ودولهم المستكبرة تشريع كل شيء ضد الإسلام والمسلمين، ودونكم ملفات القضية الفلسطينية في أروقتهم منذ ستين سنة كيف كانت؟! وإلى ماذا آلت؟! ليس سوى ظلمات بعضها فوق بعض من الظلم والبغي والعداء، ولكن المنافقين بواقعيتهم وعقلانيتهم التي لا يملكها سواهم لا يبصرون ذلك، ولا يعقلونه، وحقيقتهم أنهم قد تجردوا من عواطفهم تجاه بلدانهم، فلا يفكرون إلا بعقول الأعداء، ولا يبصرون إلا بأعينهم، ولا ينطقون إلا بألسنتهم، ولا يكتبون إلا بأقلامهم، وصدق الله العظيم حين قال فيهم: هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا [النساء: 138، 139].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|