.

اليوم م الموافق ‏16/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

منح من محنة غزة

5875

العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة

المسلمون في العالم, جرائم وحوادث

أحمد بن حسين الفقيهي

الرياض

6/1/1430

جامع الإحسان

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- مجزرة غزة. 2- من دروس هذه المحنة. 3- المستقبل للإسلام. 4- سنة الابتلاء. 5- واجبنا تجاه الحدث.

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا عباد الله:

مـاذا أقـول وقلبي بـات يعتصر      ممـا يدور ومـا يجـري وينفطر

مـاذا أقـول وأعمـاقي ممزقـة        والصمت ران كأن الْحال يحتضر

مـاذا أقـول وسَمعي ما به صمم       والعين تدمى ومـاء العين ينحدر

فالْحال يندي جبين الْحر وا أسفي        والليل أعمى ووجه الأرض معتكر

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، الخطب قد حدَّد الخُطب، والحدَث قد عيَّن الحديث، فالكل قد رأى وسمع ما حلّ بأرض الإباء والشهامة وأرض العزة والبطولة، غزّة ذلكم القطاع الذي حوّله الحصار والاحتلال إلى عَالَمٍ آخَرَ مِنَ القَلَقِ وَالخَرَابِ وَالدَّمَارِ، مَسَاكِنُ مُحَطَّمَةٌ وَمَسَاجِدُ مَهَدَّمَةٌ، وَحِجَارَةٌ مُتَنَاثِرَةٌ وَسَيَّارَاتٌ مُهَشَّمَةٌ، وَقَصفٌ وَنِيرَانٌ، وَتَفجِيرَاتٌ وَدُخَانٌ، جُثَثٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ، وَرِجَالٌ يَجرُونَ يَمنَةً وَيَسرَةً، يَتَحَسَّسُونَ قَلبَ هَذَا وَيَقِيسُونَ نَبضَ ذَاكَ، هَذَا يُكَبِّرُ وَذَاكَ يَصِيحُ، َهَذَا جَرِيحٌ يَرفَعُ يَدَهُ مُستَنجِدًا، وَذَاكَ قَتِيلٌ قَد أَسلَمَ الرُّوحَ لِبَارِئِهَا مُجَندَلاً، شُيُوخٌ وَعَجَائِزُ عُفِّرَت وُجُوهُهُم بِالتُّرَابِ، وَأَطفَالٌ يَلفِظُونَ آخِرَ الأَنفَاسِ بَينَ أَيدِي آبَائِهِم، غَارَات هَمَجِيَّة وَقَصف شَامِل يَأتي عَلَى الرَّطبِ وَاليَابِسِ، ويَأكُلُ القَرِيبَ وَالبَعِيدَ، َيُقتَلُ أَكثَرُ مِن أَربَعِ مِئَةِ شَخصٍ، وَيتجاوز بسببه عَدَدُ الجَرحَى الأَلفَينِ، في مَجزَرَةٍ عُنصُرِيَّةٍ بَغِيضَةٍ، تَحكِي أَبشَعَ الصُّورِ لِتَضيِيعِ حُقُوقِ الإِنسَانِ وَإِهدَارِ كَرَامَتِهِ.

عباد الله، إن هذه الفتن والمحن وإن كان ظاهرها الشرّ والأذى، إلا أنها تحمل في طياتها من المنح والعطايا ما تعجز عنه الأفهام حينا، وتقف مشدوهة أمامه حينًا آخر.

فهـذي أمـة الإسـلام ضجـت      وقـد تجـبى المنى بالنـائبـات

وقـد تشفـى الجسوم على الرزايا      ويعلـو الديـن من كيد الوشاة

وقد تصحـو القلوب إذا استفزت      ولفـح الثأر يوقظ من سبـات

وأصدق من ذلك قول الله سبحانه: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، وقال : ((عجبًا لأمر المؤمن! أن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن)) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله.

أيها المسلمون، إن من دروس ومنح هذه المحنة إدراكنا وإدراك الأجيال الناشئة أن معركتنا مع اليهود والنصارى معركة عقيدة ودين، وأن العِلّةَ الأصليّة في عدم رِضا اليهود والنصارى عنا هي أننا لم نتبع ملتهم؛ ولهذا فلن يرضوا ولو قدّمنا إليهم ما قدّمنا، ولو تودّدنا إليهم ما تودّدنا، لن يرضيهم من هذا كله شيء إلا أن نتبع ملتهم ونترك ما معنا من الحق؛ ولذلك فالحرب بيننا وبينهم مستمرة منذ بعثة سيدنا محمد إلى أن تقوم القيامة، فإذا حاول بعض أذنابهم وعملائهم من أبناء جلدتنا أن يقنعونا نحن المسلمين بإمكان أن تحل المحبة محل العداوة وأن يحل السلام محل الحرب فيما بيننا وبين اليهود فإن ذلك محال، كيف والله عز وجل يقول: وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، ويقول عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة: 82].

عباد الله، لقد كشفت لنا هذه الأزمة زيف الشعارات البراقة التي تنادي بها الدول النصرانية الباغية، رأينا هذه الديمقراطية التي ينادون بها، وأبصرنا حقَّ الشعوب في تقرير المصير رأيَ العين في فلسطين، رأينا رحمة الغرب المتحضّر بالإنسان حينما يُحاصَرُ ويُهاجمُ شعب بأكمله لأنه اختار من لا يريد أن يركع لساستهم وسياستهم.

أيها المسلمون، لقد أظهرت لنا هذه المحنة أنه لا ثقة بوعود الغرب وخاصة وعود راعية السلام المزعوم، إنه من السذاجة وهزال الرؤية أن نستجدي الغرب ليساعدنا ضدّ اليهود أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب مسلم يرونه إرهابيًا لأنه رفع راية الجهاد أمام الغطرسة اليهودية.

عباد الله، لقد كشفت لنا هذه الأزمة أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد وكل اللقاءات والمؤتمرات والمبادرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين؛ لأن فلسطين لا تستَردّ بالحلول السهلة أو بالمؤتمرات والخطب فقط أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلام لا تبحث إلا عن إرضاء اليهود ومصالح اليهود.

أيها المسلمون، إن مشاهدة هذه المناظر المحزنة ومتابعة الأحداث المتوالية تقطع الأمل في الرغبة الجادة في السلام، ذلكم السلام الذي يبنى على أساليب القهر والتعسف والإملاء.

أيّ سلام يجعل عدوان المعتدي دفاعًا عن النفس وحفاظًا على أمن شعبه، ويجعل مقاومة الشعوب للظلم والاحتلال عدوانًا وإرهابا؟! أي سلام يجعل حقد العدو غضبًا مشروعًا وغضب المظلوم إرهابا ممنوعًا؟!

أيـن السـلام وما تزال مساجدي      في كـل يـوم تستبـاح وتحرق

أيـن السـلام وهـذه أرواحنـا       مـن دون ذنـب كل يوم تزهق

أيـن السـلام وأمتي مغلـولـة       ودمي علـى كل الْخناجر يهرق

أيـن السـلام وهـا هم أطفالنا        قبل الفطـام تكسروا وتَمزقـوا

هـذا سـلام الخـانعين و عندنا        شجر الشهـادة كـل يوم تورق

عباد الله، يقول الحق سبحانه: مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران: 179]. وإن من منح هذه المحنة أن يعرف المسلم عدوه من صديقه، فتتميّز الصفوف، وتسقط الأقنعة، وفي هذا التمييز خير كثير للدين وأهله؛ حيث ينفضح المنافقون والذين في قلوبهم مرض، المندسّون في الصفّ المسلم ممن هُم من بني جلدةِ المسلمين وممن يتكلّمون بلغتهم، هؤلاء الشرذمة يُعرَفون بسيماهم، ويُعرفون في لحنِ القول، لا تبرز سرائرُهم إلاّ في الفتن والحروب، حيث يجعلون من النوازل والمصائب فرَصًا سانحَة لفتِّ عضُد المجتمع المسلم وقلبِ حقائقه وثوابته، فعلينا جميعًا الحذر منهم، وأن لا نغترّ وننخدع بِتَحلِيلاتِ مَن أَعمَى اللهُ قُلُوبَهُم وَطَمَسَ بَصَائِرَهُم مِن بَعْضِ مُثَقَّفِينَا وَكُتَّابِنَا وَإِذَاعِيِّينَا، أَو بَآرَاءِ مَن يُنَادُونَ بِالحُلُولِ الدّولِيَّةِ الَّتي لا تَرعَى دِينًا وَلا تَخضَعُ لِعَقِيدَةٍ، ولقد صدق الله إذ يقول فيهم: وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِى هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ [القصص: 41، 42].

أيها المسلمون، إن من منح المحنة أن يعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء، فلا تحزنوا ولا تتألموا على شهدائنا الذين قضوا في غزة في الأيام الماضية؛ لأن الشهادة ليست رزيَّة ولا خسارة، وإنما هي اختيارٌ واصطفاء وفضلٌ من الله ومِنّة، ومن هنا برز قولُ الفاروق لأبي سفيان رضي الله عنهما في أُحُد حينما قال أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يسلِم: يومٌ بيوم بدر والحربُ سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار.

عباد الله، إن منازل الموت وساحات البطولات لا تَهب الحياة فحسب، بل تهب حياة العزّ والشرف، وتسجّل تاريخ البذل والصمود، وتمسح العار وتزيل الهوان، وإن الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكؤود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذّ وأجمل من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة وحياة حقيرة لا تليق بهمم الرجال، وإن صاحب الحق لا بد له من المدافعة عن حقه وتهيئة أسباب القوة لانتزاع حقه من أيدي الغاصبين، والانتصار لا يتحقق للضعفاء، فلا حلّ إلا بالجهاد، ولا بد من الإعداد، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ الآية [الأنفال: 60].

أيها المسلمون، من وسط الظلام يبزغ نور الفجر، ومن رحم المأساة يولد الأمل، ولقد رَأت هذه الأمّة في تاريخها الطويل من مواقفِ النّصر والهزيمة والنَّحس والسّعْد ما تراه كلُّ أمّة، ولكنَّ الخاتمةَ الثابتة في كلٍّ حسنُ العاقبة وخير المآل. وأعيدوا النظرَ في التاريخ تجِدوه ناطقًا بهذا بأبلغِ لسانٍ وأوضح بيان.

إن محنةَ فلسطين ـ عباد الله ـ ليست هي الأولى والأخيرة، فقد تعرضت هذه الأمةُ لمحنٍ كثيرة قاسية، بل أكثر قسوة وشدةً من محنتنا في فلسطين، فلم تستسلم هذه الأمة، ولم تيأس، وظلَّت تكافح وتجاهد حتى نصرها الله على أعدائها.

أيها المسلمون، دينُكم تكفَّل الله بحفظِه ووعَد بعلوِّه على الدينِ كلِّه وضمن نصره؛ لأنه الدِينُ الحقِّ الّذي أرادَه الله أن يبقَى خالِدًا مخلَّدًا مهما كادَه الكائدون وعادَاه الحاقِدون، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وإن القوى الشرِّيرةَ التي تتربص بالإسلام سُرعان ما تَنهار وتندَحِر قوَّتها وتزول دولتُها وتذهَب ريحها بوعد الله لنا في قوله سبحانه: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال: 18].

عباد الله، إن وعد الله تعالى لآتٍ إن شاء الله، وإن تفريج الكرب لقادم طال الزمان أو قصر، اشتد الكرب أم انحسر، نثق بمستقبل الإسلام وبنصر المسلمين وبموعود ربِّ العالمين؛ لأن الإسلام لا ينتهي بنهاية معركة عسكرية، ولأن الإسلام ليس عالمًا أو شيخًا أو ملكًا أو رئيسًا أو مفكرًا يرتفع الإسلام بحياته وينتهي بنهايته، فالإسلام أكبر من اختزاله بأشخاص مهما كبروا، وأعظم من ربط مستقبله بحكومات وأنظمة مهما عدّلوا وحرفوا، أو بعلماء مهما قصّروا وتغافلوا، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى ٱلأَذَلّينَ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 20، 21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر: 51]، قال بعض أهل العلم: إنَّ الله سبحانه ينصُر رسلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا وإن اختلفت صورُ النصر، فمنهم من يمكِّنهم الله سبحانه حتى يظهَروا على عدوّه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومِنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامِهم المكذّبين لهم، ومنهم من يسلّط الله عليه القتل، ومِنهم مَن يسلَّط عليهم بعد قتلهم أنبياءَهم من ينتقِم للأنبياءِ وينتصرُ لهم. وأضاف: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتَلون، فيذهب ذلك القَرن حتّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصُرهم، فيطلب بدمائهم ممَّن فعَل ذلك في الدنيا، فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتَلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. انتهى.

أيها المسلمون، إن من أعظم الأسباب الجالبة لغضب الله والمؤدية للذل والهزيمة هي اليأس من نصر الله، ولقد كان الرسول أشد ما يكون تفاؤلاً في الأزمات، وكان عليه الصلاة والسلام وهو في مكّة حيث الشدائد والأهوالُ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم. اعترضت طريق الصحابة صخرة عظيمة يوم حفر الخندق، والمشركون يحاصرون المدينة في أشد أزمة مرت عليهم، فيأتي عليه الصلاة والسلام فيكسرها في المرة الأولى ثم يقول: ((لقد أضاءت لي قصور الحيرة في المدائن))، وفي الثانية: ((أضاءت لي قصور الشام))، وفي الثالثة: ((أضاءت لي قصور اليمن))، كل ذلك وهو يقول: ((وأمتي ظاهرة عليها)). ولقد رأى الصحابة رضي الله عنهم مصداق موعود الله وإخبار رسوله بالفتوحات التي نشرت الإسلام في أصقاع الدنيا كما بشر به سابقًا.

عباد الله، في خضَمّ الأحداث قد تهتزّ بعض النفوس فتستبطئ نصرَ الله وتتساءل: لماذا يُصابُ الحقّ وينجو الباطِل؟! ولماذا لا ينتصِر المسلمون؟! وإلى متى تتوالى النكبات وتتابع الأزمات على أمتنا؟! ألسنا على الحق والدين؟! ألسنا عبادًا لرب العالمين؟!

والجواب عباد الله: إنها سنة الله تعالى الماضية وحكمته البالغة في الابتلاء والاختبار والامتحان للأمة جميعا بقادتها وشعوبها، أنحن ـ عباد الله ـ أكرم على الله أم محمد بن عبد الله أكرم البرية وسيد البشرية؟! أما آذاه الكافرون وعاداه المبلطون؟! أما حوصر المسلمون؟! أما كان يرى أصحابه بين يديه يقتّلون؟! أما كان الله جل وعلا قادرا أن يمحق الكافرين وينصر المؤمنين دون عناء ومشقة، دون إزهاق للأنفس وإهدار للأموال؟! ولكنه الاختبار والامتحان للمؤمنين الموحدين، واستمعوا لكلام ربكم المحكم وآياته البينات الواضحات وحكمته البالغة وسنته الماضية بعدما أصاب المسلمين ما أصابهم في أحد، نزلت تلك الآيات تربي المؤمنين في كل عصر ومصر، قال الله جل وعلا: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعَمه التي لا تعدّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الذي لا ينطِق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى.

أما بعد: فيا عباد الله، إن ما يجري في فلسطين المحتلة وعلى أرض غزة المحاصرة لهو امتحان شديد لأمة الإسلام، وإنّ الذي يحدث هو مسؤولية كل من رآه أو علم به، إننا والله مسؤولون عن مناظر القتل ومشاهد الفقر والتجويع التي يمارسها اليهود والعالم يؤيّده على إخواننا في غزة، إننا والله نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة.

أيها المسلمون، النصر سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم، والباطل سيزهق بجهودكم أو جهود غيركم، ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه؟! لماذا لا يكون لبنةً في طريق النصر وسهمًا من سهام الحق وأداة لإزهاق الباطل؟!

إِنَّ في أَيدِينَا الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ممَّا لا يَسَعُ مُسلِمًا تَركُهُ وَلا التَّقصِيرُ فِيهِ، بِأَيدِينَا ـ عباد الله ـ أن نحدث أنفسنا بالجهاد، ونعد العدة ونسأل الله الشهادة، ((فمن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه النسائي وغيره.

وبأيدينا ـ أيها المسلمون ـ أن نربي جيلاً جديدًا على الإيمان والولاء للمؤمنين والبراءة والفرار والكره للمشركين، وليكون هذا الجيل بإذن الله طلائع جيل النصر المنشود.

بأيدينا ـ عباد الله ـ أن نكسر الحصار المالي عن أهل غزة خاصة وفلسطين عامة عبر الوسائل المتاحة من جمعيات ومؤسسات فتحت أبوابها لنصرتهم وإغاثتهم، ولنتذكر جميعًا أن الله تعالى ذكر الجهاد بالمال مقدما على الجهاد بالنفس في أكثر من موضع في القرآن الكريم، يقول تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41].

وبِأَيدِينَا ـ أيها المسلمون ـ السِّلاحُ المَاضِي وَالقُوَّةُ القَاهِرَةُ، والذي ليس وراءه حبة خردل من إيمان، وهو أن نجأر بالدعاء إلى الملك العلام أن يكشف البلاء عن أهل غزة رمز العزة والإباء، ولعل دعاء المخلصين في مختلف بقاع الأرض لإخوانهم في فلسطين أن يكون أمضى من حجارتهم وبنادقهم وصواريخهم في أعدائهم من الصهاينة المعتدين، وَاللهُ وَعَدَنَا بِالإِجَابَةِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم.

عباد الله، هذه نماذج للنصرة، وهناك الكثير غيرها، كل حسب استطاعته، العَالِمُ بِجَاهِهِ وَعِلمِهِ، وَالسِّيَاسِيُّ بِثِقَلِهِ وَوَزنِهِ، وَالكَاتِبُ بِقَلَمِهِ، وَالخِطِيبُ بِلِسَانِهِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا مِنِ امرِئٍ يَخذُلُ امرأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ تَعَالى في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ)).

أيها المسلمون، صلّوا وسلّموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمَرَكم بذلك المولى جلّ في علاه فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك الهادي الأمين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.

اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزم اليهود المعتدين ومن أعانهم من العرب والعجم يا رب العالمين، اللهم خالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم رجزك وبأسك الذي لا يرد عن القوم الظالمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً