أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
عبادَ الله، إن من مكارمِ الأخلاقِ التي جاءتِ الشريعة بإكمالها مكرُمةَ الصدقِ، حيثُ كانتِ العربُ في جاهليتها تتفاخرُ بالصدقِ وتُعَظّم الصادقين، وتنفِر من الكَذِب وتهجو الكاذبين، فهذا أبو سفيان بنُ حرب قبل إسلامه يذهبُ في رهطٍ من قريشٍ في تجارةِ إلى الشامِ، فيسمعُ بهم هرقلُ ملكُ الروم، فيبعثُ إليهم ليسأَلَهم عن هذا النبيِ الجديدِ صلى الله وسلم على نبينِا محمد، فأتوه فسألَهم فَصَدَقُوه، قال أبو سفيان وهو يومئذٍ مشركُ: (وَاللَّهِ، لَوْلا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ). هكذا كان الكفارُ في كفرِهم وأهلُ الجاهليةِ في جاهليتِهم يترفَّعُون عن الكذبِ ويستحيونَ من أن وينسب إليهم.
كما كانوا يعظمون الصدقَ والصادقينَ حتى لقبوا نبينا قبلَ بعثته بالصادقِ الأمينِ، وصدقُوا فهو عليه الصلاة والسلام حاملُ لواءِ الصدقِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وما زادَه الإسلامُ إلا تمسكًا بالصدقِ وعملاً به ودعوةً إليه وصبرًا على الأذى فيه، تقول عائشة رضي الله عنها: ما كان خلقٌ أبغضَ إلى رسول الله من الكذب، ولقد كان الرجلُ يحدِّث عندَ النبي بالكِذْبةِ فما يزالُ في نفسِه حتى يعلمَ أنه قد أحدثَ منها توبة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصدقِ، فإن الصدقَ يهدي إلى البرِ، وإنَّ البرَ يهدي إلى الجنةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يكتبَ عندَ اللهِ صِدِّيقًا، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَّ يهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النارِ، وما يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عندَ الله كذابًا)).
وإن الإنسان العاقل ليغضب أن يقال له بين الناس: يا كاذب، فكيف يرضى أن يكتب عند الله كذابا؟! قال الأحنفُ بنُ قيسٍ رحمه الله: "اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذبُ والمروءةُ".
عبادَ الله، لقد جاء عن النبي أحاديثُ كثيرةٌ تحذرُ من هذا الخلقِ الرديءِ، وتُبينُ أنَّه من كبائرِ الذنوبِ، وتُبَيِّنُ خطرَه وضررَه ومصيرَ صاحبِه وعقوبتَه في الدنيا والآخرةِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا كَذَبَ العبدُ تباعدَ عنه المَلَكُ ميلاً من نَتَنِ ما جاءَ به))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا، أو كانت فيه خَصلةٌ من أربعةٍ كانت فيه خَصلةٌ من النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلَفَ، وإذا عَاهَد غَدَر، وإذا خَاصَم فَجَر)).
ومن أشد الكذبِ الكذبُ على رسولِ الله ، فهو من الذنوبِ الموجبةِ لدخولِ النارِ، أجارنا اللهُ من النار، وذلك بأنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله وهو كاذبٌ، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ كَذِبًا عَليَّ ليسَ كَكَذِبٍ على أحدٍ، فمن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأْ مَقْعَدَه من النارِ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الذي يَكذِبُ عليَّ يُبنى له بيتٌ في النارِ)).
والكذبُ ـ عبادَ الله ـ له صورٌ متفرقةٌ وأوديةٌ متشعِبة، يجمعها وصفٌ واحدٌ هو: الإخبارُ بخلافِ الحقيقةِ عَمْدًا. والكذب إذا تَضَمَّنَ يمينًا وأفضى إلى أكلِ مالِ مسلمٍ بالباطلِ كان أعظمَ جُرمًا وأشدَّ عقوبة، فعن عبدِ الله بنِ عمروِ بنِ العاصِ رضي الله عنهما أن النبي عَدَّ الكبائرَ وفيها اليمينَ الغموسَ، قيل: وما اليمينُ الغموسُ يا رسول الله؟ قال: ((التي يَقتطِعُ بها مال امرئٍ مسلمٍ هو فيها كاذبٌ))، وقال : ((من اقتطعَ حقَ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه فقد أوجبَ اللهُ له النارَ وحرَّم عليهِ الجنةَ))، فقال رجلٌ: وإن كان شيئًا يسرًا؟ قال: ((وإنْ كانَ قَضيبًا من أراكٍ)).
ومن أنواع الكذبِ المنتشرةِ بين الناسِ الكذبُ لإضحاكِ الجلساءِ، فعن مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةََ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ويلٌ للذي يُحدِثُ بالحديثِ ليضحِكَ به القومَ فيكذِبُ، ويلٌ له، ويل له)) رواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن". فويلٌ لمن أغضبَ الخالقَ ليُفرِحَ ويضحِكَ مخلوقًا مثلَه لا يملِك لنفسِه ضرًا ولا نفعًا، ولا يملِك مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا. ومعلومٌ أن النبيَّ يمازح أصحابه دون إكثارٍ ولا يقول إلا حقًا، والصحابةُ والتابعونَ ومن بعدَهم يمزَحُون ويضحَكون ولا يقولون إلا صِدقًا، قال ابنُ سيرين رحمه الله: "الكلامُ أوسعُ من أنْ يكذِب ظَريفٌ"، يعني: أنَّ أبوابَ الكلامِ المباحِ واسِعة مُشرَعة أمامَ من أرادَ المِزاح، فلماذا يلجأُ للكذبِ؟! وفي الحديثِ: ((إن في معاريضِ الكلامِ مندوحةً عن الكذبِ)).
ومن هذا النوعِ من الكذبِ ما يُعرَفُ عندَ الغَرْبِ بِـ"كِذْبَةِ أبريل"، إلا أنَّ هذهِ عَادةٌ ذاتُ جُذورٍ دينيةٍ وثنيةٍ، وللأسفِ أنَّه يُقلِدُهم فيها بعضُ الجهلةِ في وسائلِ الإعلامِ ومواقعِ الإنترنت بحجة المزاح، وهم بذلك يحيونَ سُنَنَ الكافرينَ، ويخالفون أخلاقَ المؤمنينَ وسنةَ خاتمِ المرسلينَ عليه الصلاة والسلام، مع ما يُصاحِبُ تلك البِدعةَ من الاعتدادِ بتقويمِهم ونشرِ ثقافتهم وأخلاقِهم الرديئةِ.
فينبغي الحذرُ والتحذيرُ من عاداتِ الكفارِ، خصوصًا إذا كانت ذاتَ جذورٍ عَقَديةٍ، وعدمُ المشاركةِ بشيءٍ من ذلك، بل والإنكارُ على من فعلَ ذلك، وتوضيحُ الحقِ له. وإنْ تعجبْ فعجبٌ فعل بعضُ الناسِ في هذه الكِذبةِ عندما يحبِكُونها، حيثُ يقولونَ: هذه كِذبةُ أبريل، وكأنهم يستحلونَ الكذبَ في هذا الشهرِ والعياذُ باللهِ من ذلك، ومن يعتقِدُ حِلَّ الكَذِبِ فهو على خطرٍ عظيمٍ.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه لا يوجدُ كَذِبٌ أبيضٌ ولا أسود، ولا يَحِل شيءٌ من الكذبِ إلا في أحوالٍ ثلاثٍ: كَذِبُ الرجلِ على امرأتِه ليرضيَها، والكَذِبُ في الَحربِ، والكَذِبُ ليصلحَ بين الناسِ، كما أخبرَ بذلك رسولُنا .
ومن أنواعِ الكذبِ الكذبُ في الرؤيا، قال : ((إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ)). قَالَ اِبْن بَطَّال: "الْفِرْيَةُ هي الْكِذْبَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا"، ومعنى الحديثِ أنَّ من أعظمِ أنواعِ الكذبِ على اللهِ أن يقولَ الإنسانُ: رأيتُ في منامي كذا وكذا وهو في الحقيقةِ كاذب، فالرؤيا الصالحةُ جزء من ستةٍ وأربعينَ جُزءًا من النبوةِ، وجزاءُ من يكذِب في إحدى أجزاءِ النبوةِ ما قاله رسولُ الله : ((مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ)) رواه البخاري، وهذا يكونُ عقابًا وتعذيبًا له يومَ القيامةِ إذ لا يستطيعُ أحد أن يعقِدَ بين شعيرتينِ كما يعقِد بين حبلين.
ومن زمرةِ الكاذبينَ أيضًا من نقلَ حديثًا وهو يعلمُ أنه كَذِب، قال عليه الصلاة والسلام: ((من حَدَّثَ حديثًا وهُو يرى أنَّه كَذِب فهو أحدُ الكاذبينَ))، وهذا يدلُّ على وجوبِ التثبتِ، وعدمِ نشرِ ما يغلِبُ على الظنِ كَذِبُه، إما لبُعدِه وغرابتِه، أو لصدورِه من معروفٍ بالكذبِ، أو لكونه في مسلمٍ يبعُدُ أن يقعَ منه ذلكَ، وكذلك الثرثارُ الذي يحدِّثُ بكل ما سمعَ هو من زُمرةِ الكاذبينَ أيضًا، قال رسولُ الله : ((كفى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمِع)).
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أن الدابَّة التي يسيرُ بها الكَذِبُ والمَطِية التي ينتشرُ بها هي كلِمَة: "زعموا" أو "قالوا" أو "سمعنا" أو "قرأنا" أو نحوِ ذلك من العباراتِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((بئس مَطِيَّةُ الكَذِبِ زعموا))، قال عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الشيطانَ ليتمثلُ في صورةِ الرجلِ، فيأتي القومَ فيحدِّثُهم بالحديثِ من الكَذِبِ، فيتفرقون، فيقولُ الرجلُ منهم: سمعتُ رجلاً أعرفُ وجهَهُ ولا أدري ما اسمُه يحدِّث). قال الله تبارك وتعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً.
وإذا كان في المجتمعِ من ينقُل الأحاديثَ وهو يعلمُ كَذِبها ومن يحدِّثُ بكلِّ ما سمعَ ومن يمتطي الكذبُ لسانَه بعنانِ "زَعموا" أو "قالوا" أو "سمعنا" أو "قرأنا"، إذا كانَ هؤلاءِ في المجتمعِ ترعرعتْ إذًا الإشاعةُ وبلَغَتْ عَنانَ السماءِ، ولا يخفى على عاقلٍ خطرُ الإشاعةِ في المجتمعِ، فكم من بيتٍ حطَّمتْ سمُعَته، وكم من مسلمٍ رَوعتْه، وكم من أمنٍ زَعزعتْه، وكم من بريء ظَلَمَتْه، وكم من عِرضٍ لطختْه، ولذلك كانَ عَذابُ مُصَدِّر الإشاعةِ الكاذبةِ في البرزخِ ـ وهو مرحلةُ ما بعدَ الموتِ إلى قيامِ الساعةِ ـ كان عذابُه أن يقومَ عليه قائمٌ بكَلّوبٍ من حديدٍ، فيُدْخِلُ ذلك الكلّوبَ في شِدْقِه، فيُشَرْشِرُ أحدَ شِدْقَيهِ حتى يبلُغَ قَفاه، ثم يَفْعَلُ بالشدقِ الآخرِ مثلَ ذلك، ثم يعودُ للشدقِ الأولِ فإذا هو قدْ التئمَ على هيئتِه الأولى، فيُشرشِرُه إلى قفاه، ثم يعودُ إلى الآخرِ... وهكذا يُعَذَّبُ في البرزخِ عياذًا بالله من ذلك لأنَّه يَكذِبُ الكِذْبةَ فتبلغُ الآفاقَ، كما جاءَ ذلك عن النبيِّ كما في حديثِ البخاريِّ ومسلمٍ.
فاتقوا اللهَ أيها المسلمونَ، واحذروا الشائعاتِ، احذروا من نشرِها وتوزيعِها، لا يكُنْ أحدُكم مُردِدًا لكلِّ ما يسمعُ، يقولُ الإمامُ مالكُُ رحمه الله تعالى: "اعلم أنَّه فساد عظيم أن يتكلمَ الإنسانُ بكلِ ما سمعَ".
وكثيرًا ما تكونُ الإشاعةُ مواكبةً للأزماتِ، متكاثرةً في أوقاتِ النكباتِ والمشكلاتِ الشخصيةِ والعائليةِ وتداعياتِها، فتبدأُ العناكِبُ تنسجُ القِصصَ والمواقفَ النابعةَ من تصوراتِهم وخيالاتِهم وتحليلاتِهم، وتنشُرُها بين الآخرينَ، إما بغرَضِ التسليةِ أو بغرضِ التشهيرِ أو حتى التشفي، لتجدَ الجميعَ في النهاية يتحدثونَ فيها.
إن خطرَ الإشاعةِ على المجتمعِ يكونُ أكثرَ خطورةً عندما يتناولُ ما يَمَسُّ عقيدَتَه وقيمَه وأُسُسَه وبنيانَه، وأخطرُ من ذلكَ أن تكونَ الإشاعةُ تجري على يدِ من نثِقُ بهم، ويعتبرُهم المجتمعُ أهلَ العلمِ والمعرفةِ والثقافةِ، فهؤلاءِ أكثرُ خطرًا باعتبارِهم أكثرَ تأثيرًا في نفوسِ الآخرينَ، ومن هنا لا بدَّ من التريُّثِ والانتباهِ لكلِّ ما نتلقاه، ونلجأُ إلى إعمالِ العقلِ والتفكيرِ، لا أن نكونَ مجردَ إمّعاتٍ نتلقى ونقلّدُ وننشُرُ، فخطرُ الإشاعةِ على المجتمعِ يفوقُ أخطرَ الأمراضِ، فهي أكبرُ فتكًا وأكثرُ تأثيرًا، وتستحِقُّ منا حِرصًا ووعيًا وإدراكًا يوصِلُنا إلى جادةِ الحقِ والصوابِ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيه منِ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
|