أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد ، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَ ضلالةٍ في النار.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا، فالإسلامُ جاء بكلِّ ما فيه صلاحُ العبادِ والبلادِ، وهذا من عَظَمَةِ هذا الدينِ وكمالِه وهيمنتِه على الأديانِ كلِّها.
ومن ذلك الكمالِ قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقَ))، فالأخلاقُ الكريمةُ التي كانتْ عند القبائلِ والشعوبِ جاءتِ الشريعةُ الإسلاميةُ داعيةً إليها ومكملةً ما نقصَ منها بما يضمن صلاحَ البلادِ والعبادِ.
وأحد تلكَ الأخلاقِ الكريمةِ التي كانتْ في الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ حسنُ الجوار، فلقد كان العربُ في جاهليتِهم يحمون الذمارَ ويتفاخرون بحسنِ الجوارِ، يقول طفيلٌ الغنوي في مدح جيرانه:
جزى الله عنا جعفرًا حيث أشرفت بنـا نعلُنا في الشارفين فزلـتِ
همُ خلطونا بالنفـوسِ وألْجـؤوا إلَى غرفـات أدفئت وأظلـتِ
أبـوا أن يملـونا ولـو أنَّ أمَّنَـا تلاقِي الذي يلقون منَّا لَملّـتِ
وقال الآخرُ يتفاخرُ بحُسْنِ جوارِه:
ما ضرّ جارًا لِي أجـاوره أن لا يكونَ لبيتـه سترُ
أعمى إذا ما جارَتي بَرَزَت حتى يواري جَارتي الخِدرُ
ويقول الآخر:
تعيرنا أنـا قليلٌ عديدُنـا فقلت لها: إن الكرامَ قليلُ
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارُنا عزيز وجارُ الأكثرين ذليلُ
هكذا يتفاخرون بحماية الجار وحسن الجوار، ثم بعث الله نبيَّنا محمدًا ليُتَمِّمَ هذه المكرُمةَ ويرعاها حقَّ رعايتِها، فجاءت النصوصُ الشرعيةُ مؤكدةً على حق الجارِ، محرضةً على الإحسانِ إليه، محذرةً من التعدي عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحْسِنْ إلى جارِه)).
عبادَ الله، ومن شدةِ العنايةِ بالإحسانِ إلى الجارِ أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبيَّ فيوصِيهِ كثيرًا بالجارِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما زالَ جبريلُ يوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيورِّثُه)) أي: حتى ظننتُ أنه سيجعلُ الجارَ وارثًا لمالِ جارِه إذا ماتَ من كثرة ما يوصي به.
والجارُ هو من كان مجاورًا لدارك ولو كانت بينك وبينه أربعون دارًا، رُوي عن النبيِّ أنه قال: ((أربعونَ دارًا جارٌ)). قال الإمامُ الزُّهريُّ رحمه الله: "أربعونَ دارًا بين يديكَ، وأربعون دارًا من خلفِك، وعن يمينِك، وعن شمالِك". هذه هي حدودُ الجار الذي أوصى به جبريلُ النبيَ ، ثم أوصى به النبيُّ أمَّتَه وحرَّمَ أذاه وضرَرَه.
ومن صور الإحسانِ إلى الجارِ الدعاءُ والاستغفارُ له، روي أن النبي سمع رجلاً يقولُ: اللهم اغفِرْ لي ولفلان، قال: ((من فلان؟)) قال: جارٌ لي أمرَني أن أستغفِر له، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد غُفِر لكَ وَلَه)).
ومن حقوقِ الجارِ على جارِه أن تعرِضَ عليه العقارَ أولاً إذا أردتَ بيعَه، لما في الحديثِ الشريف: ((إذا أرادَ أحدُكم أن يبيعَ عقارَه فليعرِضهُ على جارِه)). فهذه صور من صور الإحسان إلى الجار حثنا عليها هذا النبي الكريم وذاك الدين الحنيف.
ومن الإحسانِ إلى الجارِ تقديمُ الهدايا إليهِ في المناسباتِ، فإنَّ الهديةَ تجلِبُ المودةَ وتزيلُ العداوةَ، وذلك بحسبِ الاستطاعة، ولو أن تفعلَ ما أوصى بهِ النبيُّ أبا ذرٍ حين قالَ: ((يا أبا ذرٍ، إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً فأكثِرْ ماءَها، وتعاهَد جيرانَك))، ويقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((يا نساءَ المسلماتِ، لا تَحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو فِرْسِنَ شاةٍ))، كلُّ ذلك تنبيهًا من النبي على الاهتمامِ بالإحسانِ إلى الجارِ وعظمِ حقِه، حتى رُوي عن النبي أنه قال: ((وَمَنْ قُتِلَ دون جارِه فَهُو شهيدٌ)).
يُروى أنَّ رَجُلا كان جَارًا لأبي دُلَفٍ ببغداد، فأدركَتْهُ حاجةٌ وَرَكِبَهُ دينٌ فادحٌ حتى احتاجَ إلى بيعِ دارِه وطلبَ ثمنًا لها ألفَ دينارٍ، فقالوا له: إنَّ دارَك لا تساوي أكثرَ من خمسِمائة دينارٍ، فقال: نعم، ولكنّني أبيعُها بخمسِمائة، وأبيعُ حُسنَ جوارِ أبي دُلَف بخمسِمائةٍ أخرى، فبلغ قولُه أبا دُلَف فأمَرَ بقضاءِ دينِه ووصَلَهُ وواسَاه. فأينَ هذا من قِصةِ الرجلِ الآخرِ الذي باعَ داره بأقلَّ من ثمنِها، فسُئلَ عن ذلك فقال:
يلوموننِي أنْ بِعْتُ بالرُخْصِ منْزِلِي ولَم يعلمُوا جارًا هناكَ يُنَغِّـصُ
فقلتُ لَهـم: كُفُّـوا الْملامَ فإنَّما بجيرانِها تغلُو الديارُ وترخُـصُ
وقد حذر النبي أشدَّ التحذيرِ من أذى الجار حتى قال: ((واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن))، قالوا: من يا رسولَ الله؟ قال: ((من لا يأمَنُ جارُه بوائِقه))، قالوا: وما بوائِقُه؟ قال: ((شرُّه)). فهذا وعيدٌ شديدٌ وقسمٌ أكيدٌ من الصادقِ المصدوقِ على نفيِ إيمانِ من لا يطمِئِنُّ جارُه إليه، ولا يأمَنُ أن يخونَه سواءً في عرضِه أو في مالِه، ولو كان شيئًا قليلاً، وذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن هذا الحديثَ ينبئُ عن تعظيمِ حقِ الجارِ، وأنَّ إضرارَه من كبائرِ الذنوب.
عبادَ الله، قال رسولُ الله لأصحابه يومًا: ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرامٌ حرَّمُه اللهُ ورسولُه، فهو حرامٌ إلى يومِ القيامةِ، قال: ((لأنْ يزنيَ الرجلُ بعشرِ نِسوةٍ أيسرُ عليهِ من أن يزنيَ بامرأةِ جارِه))، ثم قال: ((ما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرامٌ حرَّمَها الله ورسوله، فهي حرامٌ إلى يومِ القيامة، قال: ((لأن يسرقَ الرجلُ من عَشرةِ أبياتٍ أيسرُ عليه من أن يسرِقَ من بيتِ جارِه)).
وقد جاء رجلٌ إلى النبيِّ يشكو جارَه، فقال: ((اذهبْ فاصبِر))، فأتاه مرتين أو ثلاثا، فقال: ((اذهبْ فاطرحْ متاعَك في الطريقِ))، فطرحَ متاعَه في الطريقَ، فجعلَ الناسُ يسألونه فيقول: لي جارٌ يؤذيني، فجعلَ الناسُ يقولونَ: اللهم العنْهُ، اللهم أَخْزِه، فبلغ ذلك الفعلُ الجارَ فأتاه فقال: ارجعْ إلى منزلِك، فو اللهِ لا أوذِيكَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكُم بما فيه منِ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
|