.

اليوم م الموافق ‏23/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

التحذير من الوقيعة في علماء الشريعة

5813

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

عبد الله بن عمر البكري

الدوحة

25/10/1429

جامع عمر بن الخطاب

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل العلم والعلماء الربانيين. 2- وجوب توقير أهل العلم واحترامهم. 3- موقف أهل السنة من العلماء. 4- التحذير من الوقيعة في العلماء. 5- الغرض السيئ من الوقيعة في العلماء. 6- تفاوت أقدار العلماء. 7- العمل على إيجاد العلماء العاملين.

الخطبة الأولى

معاشر المسلمين، العلماء، وما أدراك ما العلماء، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، أهلُ الرحمة والرضا، بهم يقتدى، وبعلمهم يهتدى، كم من جاهل علَّموا، وتائه أرشدوا، وحائر بصّروا، وعلى طريق الجنة دلُّوا، وكم من مكروب جاء مستفتيا لكربته فرجوا ولضيقه نفسوا. بقاؤهم في الناس نعمةٌ ورحمة، وذهابهم مصيبة ورزية، قال النبي : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).

والعلماء أولى الناس بخشية الله، وأحرى الناس بمعرفته؛ لذا قال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. والعلم رحمةٌ من الله ومنحة يمنحها من اصطفاه، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ. والعلم بصيرة من الله، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. والعلم بينةٌ تستبين بها الحقائق، ويخرس عندها كُل ناطق، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ. والعلم طريق ينتهي بالعبد إلى الجنة والرضوان كما قال : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة))، فالعلم بالله أقرب طريق إلى جنة الله ورحمته.

وبالعلماء يحفظ الله الإسلام وتستبين الأحكام ويُعرف الحلال والحرام؛ لذا كان لهم على الأمة حق التعظيم والتبجيل والتقدير والتوقير، فكم بذلوا في التحصيل، وكم تركوا من حظوظ الدنيا ليقوم الدين؛ لذا كان من عاداهم محاربا لرب العالمين كما قال مخبرا عن ربه جل وعلا: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)).

والعلماء العاملون هم أولياء الله، وقد جاء عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من آذى فقيها فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله عز وجل).

والوقيعة في أهل العلم والفضل من سيما المنافقين كما أخبر ربنا جل وعلا عنهم بقوله: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وتعظيم أهل العلم تعظيم لحرمات الله، ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ اللهِ فَهُوَ خيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ، وَمَن يُّعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ.

والشعيرة كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه، فيدخل فيها العلماء دخولاً أوليًا؛ لأنهم مما أشعر الله بفضله وتعظيمه. ومن رحمة الله بالعبد ولطفه به أن يُحبب العلماء إلى نفسه، ومن أحب قومًا حُشر معهم، والمرء مع من أحب. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمَّا يلحقْ بهم، أي: ليس عنده مثل ما عندهم من الاستقامة والخير لكنه يحبهم، فقال : ((المرء مع من أحب)). فمن أحب العلماء حشر معهم، ومن أحب الفجار حشر معهم. وإذا أحب الله العبد حبَّب إلى قلبه أهل العلم والصلاح والفضل، فوقرهم وأثنى عليهم واعتقد فضلهم، فحب العلماء طاعةٌ وقربه وإيمان بالله وحسبة، نحبهم لكتاب الله الذي حفظوه، ولسنة رسول الله التي وعوها وعلّموها ودعوا إليها، نحبهم للدين، نحبهم لما فيهم من سمت الأخيار وشعار الصالحين، نحبهم لعظيم بلائهم وما قدموا من خيرٍ ونصحٍ للأمة، فاللهم عظّم أجورهم، وثقل في الآخرة موازينهم. ومن أحب العلماء حرص على مجالسهم ومواعظهم والعمل بتوجيههم ونصحهم والقرب منهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

ومن حق علمائنا علينا ذكرُهم بالجميل، والترحمُ على موتاهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فمن وجد في قلبه غلا عليهم فهو على خطر عظيم.

ومن حقهم علينا أن ننشر فضائلهم ونذكر مآثرهم، وأن نذب عن أعراضهم، فلحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن لاكها مات، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه فيهم بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أيها المسلمون، ((العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) كما أخبر المصطفى ، فمن أعرض عن العلم فهو المغبون الخاسر.

ومن سمات أهل السنة والجماعة أنهم وسط في الموقف من العلماء والصالحين، فيدينون لله بتوقيرهم، بلا غلو ولا جفاء، فلا يدعون لهم العصمة في حياتهم، ولا يجعلون قبورهم أوثانا ومشاهد بعد مماتهم، كحال أهل الضلال، فأهل الحق يتقربون إلى الله تعالى بتوقير العلماء وتعظيم حُرماتهم ومعرفة أقدارهم وعظيم بلائهم، كما قال الحسن رحمه الله: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
والعلم هو المعيار للحق لا الكثرة كما قال سفيان الثوري رحمه الله: "لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة".

مـا الفضل إلا لأهـل العلم إنهمُ       علـى الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كـل امرئ ما كان يُحسنه        والْجاهلـون لأهل العلم أعداء

وإطلاق اللسان في أعراض الصالحين والمصلحين من أسباب الخسران المبين، ففي الصحيح: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، وعند أبي داود أنه قال: ((لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم))، هذا في عامة الناس، فكيف بمن يقع في أعراض العلماء الذين هم صفوة الناس؟! إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

وقد كثر في الآونة الأخيرة وقوعُ بعضِ السفهاء في أعراض العلماء بالجملة وبالتعيين، حتى كتب صحفي تافه يطالب بالحجر على علماء الأمة، وهو أحق بالحَجر بل بالصفع، ولولا نفع النعل لكان ضربه بها متعيّنا، ولكن كما قيل:

وقِح إذا ضرب النعال بوجهه   صرخ النعال: بأي حق أُضرب؟!

فالنعال فيها نفع لأقدام العلماء، وتواضع لمقامهم الشريف، وذاك وأمثاله لا نفع لهم بل ضرر محض وتطاول على أكابر الأمة وأعلام الهدى، وليسوا إلا قربا منفوخة بهواء نتن، فهو وأمثاله حري بالبصق في وجهه الذي اختلطت به معالم الذكورة بالأنوثة، وكم من نكرة تافه من كاتب رقيع وصحفي وضيع وقع في جبل من جبال العلم أو علم من أعلام الدعوة والإصلاح، فأعمل لسانه السليط وأجرى قلمه البذيء في التنقص والتندر وتزوير الأقوال وتحريف الفتاوى وتحميل الكلام ما لا يحتمل إلا في قلبه المريض وفهمه البليد.

معاشر المسلمين، لقد أدرك العلمانيون وهم دعاة فصل الدين عن الحياة أخزاهم الله، أدركوا أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة أو ينالوا من الأمة مبتغاهم ما دام للعلماء في الأمة شأنٌ وهيبة وتأثير وتبجيل، بما جعل الله لهم في القلوب المؤمنة من التقدير والتوقير، فسعوا لإسقاطهم وتشويههم بكل ما أوتوا من قوة، ولم يألوا جهدا في ذلك، وإنه لانتهاك بشع أن يطعن الرويبضة من العلمانيين وغيرهم من الأسافل في علمائنا الأكابر بكلام بذيء، يعفُّ اللسان عن نقله، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ومعاداة ورثة الأنبياء وما يحملونه من الحق، ولكن هيهات هيهات أن يبلغوا غايتهم، أو أن يوهنوا بنطحهم صخرة العلم والفضل، بل تنحي قرونهم دونها. أما العلماء فمكانتهم في النفوس المؤمنة عظيمة، ومنزلتهم عند أهل الإسلام رفيعة، فلا يضرهم نعيق الغربان ولا قول البهتان.

وما ضر نهرَ الفرات يوما       أن خاض بعض الكلاب فيه

معاشر المسلمين، إن من مكامن الخطر في الوقيعة في أهل العلم أن جَرح العالم بلا موجب ليس جرحا لشخصه، بل تزهيد فيما يحمله من الحق والهدى وتنفير عما يدعو إليه من الخير والإصلاح. وأعداء أهل العلم يدركون هذا جيدا، فيطعنون في العلماء وهم يريدون النيل من الشريعة، ولكن بعضهم يجبن عن التصريح، والنتيجة واحدة، وهو إبطال الحق الذي يقول به ويدعو إليه هذا العالم أو ذلك.

وهم في هذا يسيرون على سَنن أسلافهم من المشركين الذين أرادوا صرف الناس عن الإسلام، فطعنوا في شخص الرسول ، فقالوا: ساحر وشاعر ومجنون وكذاب وطالبُ ملك ورئاسة، وهم يعرفونه جيدا بصدقه وأمانته ورجاحة عقله وزهده في الدنيا، ويعلمون أنهم يكذبون لكنهم لم يجدوا ما يصرفون به الناس عن الحق إلا الطعن في حامله؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول في أذهان الناس فإنهم سيُعرضون عنه ولن يسمعوا منه، وهذا دأبُ أعداء الإسلام إلى اليوم، طعون متوالية وإساءات متتالية لسيد الأولين والآخرين، وغرضهم في ذلك خداع عامتهم وصرفهم عن البحث عن حقيقة الإسلام، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره، فالمسلمون الجدد في تزايد مستمر، والبحث عن حقيقة الإسلام صارت هواية للكثيرين، تقودهم إلى اعتناق هذا الدين، ولنفس الغرض الذي يطعن فيه أعداء الإسلام في صاحب الرسالة لصرف الناس عما جاء به يعلو نباح دعاة العلمنة في الطعن على حملة الشريعة وحراس العقيدة من علماء الأمة، ولكن هيهات هيهات.

يـا ناطح الجبل العالي ليثلمه   أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

معاشر المسلمين، إن ما يُشاع بين الحين والحين من نسبة أقوال ومواقف تسيء لعالم من علماء الأمة أو داعية من دعاتها لا يخلو من أحد احتمالات ثلاثة: فإما أن يكون ذلك القول مفترى عليه من الأصل ولا صحة له مطلقا، وإما أن يكون قولا فُهم على غير وجهه أو حُرف مضمونه أو تلاعب خبيث بمقصوده، وإما أن تكون زلة وكبوة، فلا ينبغي إشاعتها ولا ترويجها، بل يُناصح فيها سرا إن لم يكن قد أظهرها وأعلنها أو دعا إليها. والعالم عند أهل السنة غير معصوم، إلا أن الأصل فيه العلم والفضل وتوقير الشريعة والوقوف عند حدودها.

ولنعلم يقينا أن أكثر ما يُشاع عن أهل العلم مما لا يليق بهم هو إما كذب عليهم أو سوء فهم لكلامهم أو تحريف متعمد لأقوالهم، فينبغي على من بلغه عن أهل العلم شيء يستغربه أن يتحقق من صحة نسبته، وأن يسأل عن وجه كلامه في حال ثبوته عنه.

فكم من عائب قولا صحيحا    وآفته من الفهم السقيم

ومن عظمت الشريعة في نفسه أحب حملتها ومبلغيها، وعظم ما يحملونه من علم الكتاب والسنة، وحرص على التأدب معهم، وأنصت إليهم إذا تحدثوا، وأطاعهم إذا أمروا أو نهوا؛ لأن طاعتهم من طاعة الله، وسؤالهم مما أمر به الله كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. والمحب للعلماء يظهر حبه للعالم إذا تكلم بإنصاته وخشوعه وتأثره ودموعه، فيكون كلام العالم في قلبه كالغيث للأرض الطيبة، ينبت أنواعا من الطاعات، ويزيد في الإيمان، ويقوي اليقين. ومن أكرم أهل العلم فهو الكريم، ومن أساء إليهم فهو الخِبُ اللئيم. وما أحوجنا إلى التأدب معهم في مشهدهم ومغيبهم، فنذكرهم بأرفع الألفاظ وأجلِّها، فإهانتهم في الخطاب من سَنن اللئام، ومن أساء الأدب معهم فهو على خطر عظيم؛ لأن الله عز وجل قد أعلى قدرهم ونوه بمنزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ. فاللهم اجز علماءَنا عنا خير الجزاء، وارحم ميتهم، وسدد حيهم، إنك مجيب الدعاء.

ومتى أدْرَك المسلم قِيمة العِلْم وأهَمِيَّة العُلماء وأنَّهُ لا صلاح للعِبَاد في دينهم ودُنْيَاهُم إلاَّ بتوجيه أهل العِلم فإنه لا يملك إلا أن يحبّهُم، حتَّى أَفْتَى جَمْعٌ من أهلِ العلم بأنَّهُ يَحْرُمُ البَقاء في بلدٍ ليسَ فيهِ عالم يُفتِي النَّاس ويُبَصِّرهُم حيث لم تكن وسائل التواصل الحديثة متاحة، ولك أن تتَصَوَّر نَفْسَك في وادٍ مُظْلِم مُوحِش كثير السِّبَاع، أو طريق طويل بين أشْجَارٍ وصخور وجبال ودروب مُوحِشَة وسِبَاع، ثُم جاء أحد معهُ نُور، يدُلُّك الطَّريق، كم له من الفضل عليك! فأهل العلم بهذهِ المَثَابة، بل أعظم؛ لأن النجاة الحاصلة بسببهم ليست مقصورة على الدنيا، بل تمتد لتوصلك إلى جنة الله ورضوانه.

وتتفاوت أقدار أهل العلم بحسب النور الذي معهم، فمنهم طالب العلم الذي معه كالمصباح يضيء لنفسه ولمن كان قريبا منه، ومنهم العالم المتمكن فنوره كالشمس يغطي أرجاء الدنيا بعلمه ونوره؛ لذا كان الإمام أحمد يقول عن الإمام الشافعي: "كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن"؛ لأنه أنار بعلمه للمسلمين كافة، ومثله كان أحمد وسائر الأئمة العظام، وعلى دربهم كبار علماء زماننا، رحم الله أمواتهم وسدد أحياءهم.

ولينظر العاقل إلى حال البلدان الإسلامية التي أُهين فيها العلماء وأزيحوا عن مقام التوجيه والريادة كيف ساءت أحوالهم وأين وصلت أخلاقهم وكيف اضمحلت ديانتهم، حتى أصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرا، وإذا لم تكن دفة التوجيه والإرشاد والبيان بيد العلماء فمن يتولاها؟ا لفضائيات الساقطة أم الصحف المنحرفة أم الرويبضة؟!

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، إذا أنعم الله على العبد فرزقه الذرية من الأبناء والبنات فليكن من شكره لله عز وجل أن يعلمهم العلم النافع الذي تزكو به نفوسهم ويقربهم من ربهم، وما أحسن أن يكون في نفس من أنعم الله عليه بالذرية أن يُقدم ابنًا من أبنائه أو بنتا من بناته يتعلم العلم الشرعيَّ النافع عند الله عز وجل يوم تكون كثير من العلوم وبالاً على أصحابها. فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على حث أبنائكم على حِلق القرآن ومجالس العلم، وربوهم على حب العلماء وتقديرهم وإجلالهم، واغرسوا ذلك في نفوسهم يكن لكم مثل أجورهم وتكونوا ممن خلَّف ولدًا صالحًا يدعو له، فيكون ذلك الباقي له من الدنيا بعد أن يُخلِّف فيها كلَّ ما جمع فيها. فكم من أبٍ علَّم ابنه العلم الذي ينفع عند الله عز وجل، فكان علمُ ابنه وما علَّم من المسلمين في ميزان حسنات ذلك الأب. وكم من حريص على الدنيا صرف أبناءه عن تعلم القرآن وعن حلق الذكر فكان أول المصطلين بنار عقوقه.

فيا من حُرم العلم لا تحرمه أبناءك، حثَّهم عليه، وخذ بأيديهم إلى حلق القرآن ورياض العلم والإيمان، ومتى عَلِم الله في قلبك أنك تحب العلم لابنك لربما أقر عينك في حياتك قبل موتك فرأيته عالمًا من علماء المسلمين وإماما من أئمة الدين الذين يذبون عن دين الله ويقيمون شريعة الله وما ذلك على الله بعزيز، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.

وإذا يسر الله إنشاء مدارس دينية لتخريج من يقوم بواجب حفظ الشريعة من إمامة وخطابة وقضاء ودعوة وفتوى ونحوها ـ كما هو في جميع بلدان المسلمين ـ فلنحرص أن يكون لأبنائنا نصيب من الخير، ولعل الله أن يشرح صدور ولاة أمرنا الكرام لإنشاء مدارس شرعية في جميع المراحل لتخريج العلماء والدعاة الذين تفتقر البلد إلى عدد كبير منهم، بجانب المدارس العامة، فنسأل الله أن يجري هذا الخير على أيديهم عاجلا، وهم أهل لذلك، فحاجة البلد إلى مدارس شرعية لا تقل عن حاجتها إلى غيرها من المدارس المتخصصة الأخرى. ولا يخلو بلد من بلدان المسلمين من عدد كبير من المدرس الشرعية، ولسنا أقل حرصا منهم على ديننا، بل إن قطر قد سبقت غيرها في كثير من أبواب الخير وخدمة الدين بفضل الله جل وعلا، ثم بحرص ولاتنا على دينهم وشريعتهم ونصرة إخوانهم وإصلاح ذات البين.

اللهم إنا نسألك صلاح الأبناء والبنات، وأن ترزقنا خيرَهم وصالح دعائهم بعد الممات.

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً