أما بعد: والمسلم ـ عباد الله ـ ما يرى من نعمة إلاّ ويعلم أنها من عند الله، وما يرى من مصيبة إلاّ ويعلم أنها بما كسبت يداه ويعفو عن كثير. ويعلم المسلم أن الكون بإنسه وجنّه وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه ومخلوقاته ما علمنا منها وما لم نعلم إنما هي مسخرة بأمر الله تعالى، يتصرف فيها كيف يشاء سبحانه، ولا معترض عليه. والمسلم بما يحمل من عقيدة التوحيد يعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من أمطار وأعاصير ورياح وكسوف وخسوف إنما هي بقدر من الله جل وعلا، لحكمة يريدها الله، علمها البشر أو غابت عنهم. ويعلم المسلم أيضًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الواجب عليه عند حلول المصيبة أن يصبر ويحتسب، فهو دائمًا يتأثر قلبه بالآيات الكونية التي يراها ماثلة أمام عينيه، وهي تذكره بالله وتحيي قلبه وتجدد الإيمان فيه، وتجعله متصلاً بالله ذاكرًا له شاكرًا لنعمه مستجيرًا بالله من نقمته وسخطه.
وها هنا وقفات للتأمل والاعتبار أيها الأحبة:
الوقفة الأولى: المعاصي والآثام سبب في حدوث الهلاك:
أيها المسلمون، ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، والعقوبات الربانية تختلف، فقد يكون زلزالا، وقد يكون حروبًا، وقد يكون تدهورًا في الاقتصاد وسوءا في الأوضاع المالية، وكل ذلك عساهم أن يتوبوا وأن يتضرعوا إلى الله تعالى، وعساهم أن ينيبوا إلى مولاهم وخالقهم جل وعلا، وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ٱلضَّرَّاء وَٱلسَّرَّاء فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ .
وإنه يحدث منا من الذنوب والمعاصي ما لا يحصى، ومنه ما هو من الكبائر الموبقة كأكل الربا والرشوة وتبرج النساء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الفواحش وغير ذلك مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحًا ومساءً، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45، 46]. تركت الصلوات، وأهملت الواجبات، ضعف الخوف من الله في قلوب الناس، تغيرت أخلاقنا، هل اعتبرنا ـ يا عباد الله ـ بما يحدث؟! هل غيرنا من حالنا من سيئ إلى حسن؟! إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ أو نرى بأعيننا من الحوادث المروعة والعقوبات الشديدة لا يزال الكثير منا مصرًا على معاصيه من أكل الحرام وترك الصلاة وهجر المساجد وفعل المنكرات، حتى أصبح كثير من البيوت أوكارًا للفسقة والعصاة والتاركين للصلاة، ولا ينكر عليهم صاحب البيت، وفي الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده))، أَءمِنتُمْ مَّن في ٱلسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16]، وقال جل وعلا: أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل: 45].
أيها المسلمون، إنه والله يخشى علينا اليوم الوقوع في مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا نقمة الله التي حلت بمن قبلكم ومن حولكم أن تحل بكم.
الوقفة الثانية: النظرة المادية: انقسم الناس عندنا إلى قسمين:
القسم الأول: وهم من الذين يحشرون عقولهم في كل شيء، ويزعمون أنهم يفهمون كل شيء، ويزعمون العلم والثقافة، وإذا سمع الإنسان العادي أحدهم يتكلم يتعجب من فصاحته ورصّه الكلام المنمّق، والذي يحرص فيه على الابتعاد عن الإشارة إلى الدّين بأي شكل من الأشكال، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4]. هؤلاء وأمثالهم من أصحاب المذاهب العلمانية لا يعتقدون أن لله دخلاً فيما يحدث، ويحاولون خداع الناس بقولهم: "إن هذه الكوارث من أفعال الطبيعة، وإنها عادة طبيعية وغير مقصودة"، فإذا حدث زلزال أو خسف أو غرق أو عواصف أو صواعق فهذا كله لا يربطون بينه وبين العقوبة الإلهية، لماذا؟ حتى لا يتنبه الناس لفعالهم ولإفسادهم وجرائمهم، وقد ذكر القرآن هذا المعنى في قوله جل علا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـٰتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ . ورغم هذا يجادلون في هذه الحوادث ولا يربطونها بالله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: 13]. وفي عهد الرسول صلى الصبح وكانت ليلة هطلت فيها الأمطار وكثرت فيها السحب، فلما انتهى من صلاته أقبل على الناس وقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم بما قال، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: أُمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)). إذن، فأصحاب هذا الرأي من الماديين رأيهم لا وجه له، بل هو رأي قد يهلك من اعتنقه، إن يظنون إلا ظنًا، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى [النجم: 28-30].
أما القسم الثاني في نظرتهم إلى مثل هذه الحوادث: فهم أهل الإيمان، أهل الإيمان الذين يعرفون من كتاب ربهم وسنة نبيهم أن هذه الحوادث إنما هي آيات يخوف الله بها عباده لكي يرجعوا إليه، يقول سبحانه وتعالى معقبًا على إهلاكه قوم لوط وتخويفًا لمن بعدهم: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات: 37]، ويقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]. وعندما أخبر النبي أن هذه الأمة سيكون فيها خسف ومسخ وقذف لم يذكر أن السبب هو تصدع سطح الأرض وانشقاقها، إنما السبب هو المعاصي، فقال : ((سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف؛ إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)) صحيح الجامع [4149]. وعندما وقعت هزة أرضية في المدينة على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فجاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألها، فماذا قالت له؟ قالت: كثرت الذنوب في المدينة، فماذا قال ؟ جمع الناس وقال لهم: والله، ما رجفت المدينة إلا بذنب أحدثته أو أحدثتموه، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا. وقال كعب : (إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد خوفًا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها).
لقد أخبر أن الزلازل ستحدث وتكثر حين يكثر الفساد وتظهر الفتن وستكون من علامات الساعة، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج))، قيل: الهرج؟ أي: ما هو يا رسول الله؟ قال: ((القتل القتل))، وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا اتخذ الفيء دولاً والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا وتُعلِّم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)). بيّن في هذا الحديث أنه عندما تحدث هذه الجرائم في آخر الزمان فإنها ستقع عليهم العقوبات المتتابعة.
إذن من الواجب علينا جميعًا ـ معشر المسلمين ـ أن نرجع إلى الله، وأن نتوب إلى الله حتى لا نتعرض لغضب الله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ [طه: 81].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وبهدي سيد المرسلين، وأجرني الله وإياكم من عذابه المهين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|