إخوتي الكرام، لقد أصيب المسلمون في عصورهم المتأخرة بدنو الهمم والرضا بالهوان والقعود عن معالي الأمور والاشتغال بالسفاسف والترهات على مستوى الأفراد والجماعات، فصاروا إمعات وببغاوات إلا من رحم الله، وغلب على الأمة اللهو والبطالة والعبث؛ ولهذا أصبحت الأمة غرضًا لأعدائها الذين تسلطوا عليها وجاسوا خلال ديارها فساموها سوء العذاب، بعد أن كانت عزيزةً مهيبة الجناب، فهوت من عليائها، ونزلت من شامخ عزها، ولقيت صغارًا بعد شمم، وذلاً بعد عزة، وجهلاً بعد علم، وعبثًا ولهوًا بعد جدٍ وحزم. فما أحوجنا أن نرجع إلى ديننا وأن نُعلي هممنا، فبالدين نرجع إلى الجادة، وبالهمم العالية ننفض غبارَ الذل ونرفع غِشاوةَ المهانة.
معاشر المسلمين، إن المسلم بطبيعته عالي الهمة؛ لأنه يشعر أنه مُبتعث لهداية الخلق والأخذ بأيدي الضالين إلى معرفة الله وما شرعه لخلقه، فهذا ربعي بن عامر يعرّف كسرى بحقيقة المسلم فيقول له: (نحن قوم ابتعثنا الله لإخراج العباد من عباد العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان ـ يعني بعد تحريفها ـ إلى عدل الإسلام).
نعم أيها الكرام، هذه حقيقة المسلم وهذه همته، ولكنها تضعف بضعف العلم ونقص الإيمان، فكلما زاد العلم بالله ودينه وزاد الإيمان علت الهمة. وهذا سرّ علو همة الصحابة والتابعين الذين امتدّ سلطانهم من جنوب فرنسا إلى تخوم الصين، فهمة المسلم إنما تضعفها المعصية والجهل بحقائق الدين، وإلا فالأصل في المسلم علو الهمة، فهمته قد علت الجوزاء، ولم تتسع لها الأرض، فتطلعت إلى ما أعد الله لأوليائه في السماء.
وإن الهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل ومواضع التهم وتنأى به عن التلطخ بالرذائل وتحثه على اكتساب المكارم والفضائل. والهمةُ العالية ترفع القومَ من سقوط، وتبدلهم بالخمول نباهة وبالضعة رفعة، ذلك أن علوَّ الهمة يستلزم الجدَّ والإباء ونُشدان المعالي وتطلابَ الكمال والترفع عن الدنايا. ولا تزال الهمة النبيلة ترقى بصاحبها في مراقي الكمال في دينه ودنياه، فلا يقصر همه على نفسه، بل يصل خيره لغيره، ويسعى في مصالح الأمة، ويجتهد في كلّ ما يرفع عنها الغمة، يحيا لأهداف سامية، فيحيا كبيرا ويموت كبيرا، أما الذي يعيش لنفسه فلا يُفرح بحياته، ولا يؤسى لوفاته، وإن صغير الهمة عندما يرى أعداء الأمة في قوة وسطوة يذوب أمامهم رهبة، ويُطرق إليهم رأسه انبهارا وذلة، ثم لا يلبث أن يسيرَ في ركابهم، ويسارع في مشاكَلتهم ومرضاتهم، ويهرول خلفهم في كل صيحة هرولة الإمعة الأبله.
معاشر الإخوة، إن هذا الدين العظيم أشد ما يكون حاجةً إلى رجال يحملون همَّه، رجال أقدامهم في الثرى وهمة هاماتهم في الثريا؛ لذا كان الحسن رحمه الله يقول: " يا له من دين لو أن له رجالا".
إن علو الهمة هو أول طريق النجاح في الدين والدنيا بعد تقوى الله جل وعلا، ولكن لا بد من التخطيط السليم لتحقيق الأهداف، فالهدف الذي لا نخطط لبلوغه يبقى حلما جميلا يصعب الوصول إليه كما قال بعضهم:
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا إن المنى رأس أموال المفاليس
فينبغي التخطيط لأهدافنا، دينية كانت أو دنيوية مباحة من المكاسب والتجارات أو العلوم والمهارات أو غيرها، وينبغي أن تكون أهدافنا واضحة، فوضوح الهدف في ذهن صاحبه من أقوى أسباب تحقيقه بعد عون الله وتوفيقه، وحبذا لو كُتبت الخطة، فقد ثبت بالتجارب أن الخطة المكتوبة أجدى وأفضل ثمرة من غيرها. وقد استغنى السلف عن ذلك لوضوح الهدف في أذهانهم وقلة الصوارف والشواغل عن بلوغ الغايات.
ولا يظنّن ظان أننا عندما نتحدث عن علوّ همم السلف نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، كلا، فإن اقتداءنا بالسلف هو ترقٍ وصعودٌ وارتفاعٌ إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيرًا؛ لأنهم جعلوا الهموم هما واحدا هو هَم الآخرة، وقد قال : ((من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) صححه الألباني. وإن التحلي بما كانوا عليه من كريم الصفات وجميل الشيم من مفاتيح العزة بإذن الله.
والعجب أن الكفرة يسعون لبث كفرهم وأهل الضلال يدأبون في الترويج لضلالهم، فماذا صنعنا نحن للحق الذي نحمله؟! المنصرون يجوبون الأدغال ويتجشمون صعود الجبال، والمبتدعة ينفقون المليارات من الأموال لشراء البسطاء والسذج من أهل الحق وشراء الأقلام والألسن، فماذا قدمنا نحن؟! من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده.
ولكن هل انتهى زمن الهمم العالية؟ هل همم الرجال تاريخ أم لا زال له شواهد في الواقع؟ إن أمة الإسلام ولود لا يزال فيها همم تطرب النفوس لذكرها وتعطر المجالس بأخبارها، هل تريدون أن تسمعوا عن علو الهمة في زماننا؟ أبشركم، فالنماذج كثيرة، وسأقتصر على ذكر نموذجين لعلو الهمة في زماننا، همة عالم إمام وهمة داعية إغاثي مبارك:
أما الأول فهو العلامة ابن باز رحمه الله، يقول أحد مرافقيه الذين جاؤوا معه من الطائف إلى الرياض برا، والشيخ قد تقدمت به السن يقول: لما كنا في منتصف الطريق بعد الساعة الثانية ليلا قال الشيخ لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا قفوا لننام، فوقفنا فما مست أقدامنا الأرض إلا ونمنا من التعب، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا بالشيخ يصلي. ويقول بعض من أصحابه لا أذكر أن ابن باز أخذ إجازة لا شهرا ولا يوما، بل كل وقته لدينه وأمته، نشر للعلم، وقضاء لحوائج الناس، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ومناصحة للقريب والبعيد من الولاة والعامة، حتى كتب لبعض الطغاة كتابا شديدا لإيذائه للصالحين وقتله للمصلحين، وختم كتابه بقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَّنقَلِبُونَ.داوم ـ رحمه الله ـ أكثر من سبعين سنة بين قضاء وإفتاء ومناصب علمية، قضى من خدمته قرابة ثلاثين عاما بعد استحقاقه للتقاعد، وجاوز التسعين وهو على منصبه يباشر مهامه الكثيرة التي تنوء بها العُصبة من الرجال، فإذا انتهى الدوام كان بقية يومه بين تعليم وإفتاء وإغاثة ملهوف ومساعدة محتاج وشفاعة لمستضعف. لا ينام إلا نحو أربع ساعات هي حظ نفسه منه، وباقي يومه لدينه وأمته. أتته الدنيا فأعرض عنها؛ لأن همته جاوزت حدود التراب وما عليه، ولو شاء أن يكون من الأثرياء لكان، فقد أثرى من هو دونه جاها ومنصبا، ولكنه آثر الزهد والخروج من الدنيا خفيفا، فكان يبذل ماله بذلا قلّما تسمع به أذن، فقد كان من كرماء هذا الزمان، وله في الجود والإنفاق في وجوه الخير مواقف لا يتسع المقام لذكرها. وبالجملة فقد كانت الدنيا عنده أهون من أن يُلتفت إليها؛ لأن همته أعلى من الدنيا وما فيها، حتى قال بعضهم: نحن نركض خلف الدنيا وابن باز يهرب منها. فما أحوج أبناء العشرين والثلاثين والخمسين لهمة ابن التسعين عليه رحمة الله وعلى سائر علماء المسلمين.
وأما المثال الآخر الذي يشهد أنه لا زال للهمة رجال ولا زالت الأمة ولادة فطبيب خليجي سمع بجهود المنصرين في أفريقيا، فتحركت فيه حمية الدين ونخوة المؤمن، فترك حياة الرغد والرفاه والوظيفة المرموقة ليعيش في أفريقيا سنوات طويلة، وهو إلى هذا اليوم يجوب أدغالها ويخوض مستنقعاتها غير مبال على أي فراش نام أو من أي طعام أكل ومن أي ماء متعكر شرب، فقضى هناك زهرة شبابه؛ باذلا نفسه لدينه، دائبا في الدعوة والإغاثة حتى تقدمت به السن، فلم يبال بكبر سنه، ولم تعقْه الأمراض التي أنهكت جسده الذي صار مستودعا لعدد منها, هانت عليه نفسه في الله, وعلت همته في سبيل الله، فأسلم على يده الألوف المؤلفة من النصارى والوثنيين، وبنى المئات من المساجد والمدارس والمشافى، ووقف للتنصير في القارة السوداء كالطود الأشم، فلم يلقه المنصرون في بلدة إلا عادوا أدراجهم وانكفؤوا في جحورهم. رجل واحد يفعل كل هذا، فرزقه الله محبة الخلق، فلا يسمع بجهده أحد إلا أحبه، إنه الدكتور عبد الرحمن السميط حفظه الله وأمده بالصحة والعافية. ومن قصرت يده عن دعمه في معركة الحق ضد الباطل فلا يقصر لسانه عن الدعاء له.
ودخلت على فضيلة الدكتور القرضاوي في مرضه السابق وهو طريح الفراش وقد جاوز الثمانين وإذا بالكتب بين يديه وبجواره، فقلت له ممازحا: حتى في المستشفى بحث وتأليف! فضحك ولسان حاله يردّد ما قاله الإمام أحمد لما قيل له: إلى متى تطلب العلم يا أبا عبد الله؟ فقال: "مع المحبرة إلى المقبرة".
هذه هي الهمم، وهؤلاء هم الرجال.
هم الرجـال وعيب أن يقـال لمن لم يتصف بمعـالي وصفهم: رجل
وقد يقول قائل: وأين نحن من هذه الهمم؟! هذا مما يعجز عنه أكثر الناس، فنقول: سددوا وقاربوا، وليبذل كل منا لدينه ما يستطيع وما في وسعه، وفي المجال الذي يُحسنه، فلدى كل مسلم ما يستطيع أن يُقدمه، فلا تحقرن نفسك أيها الحبيب، فإن لم تكن بحرا فكن بئرا، وإن لم تكن بئرا فكن دلوا، وإن لم تكن سيفا فكن غمدا، وإن لم تكن قلما فكن حبرا، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5-11].
معاشر المسلمين، إن العاقل اللبيب من جعل همَّه في مرضاة الله، وعلم أنه لن ينال من الدنيا إلا ما كتب له مولاه، فاجتهد في رضاه، وآثره على هواه، وبذل الأسباب ثم توكل على الله، وقد صح عن النبي أنه قال: ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له)).
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية...
|