أيها المؤمنون، إن الله يملي للظالم ويمهله، فإذا أخذه لم يفلته، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. كم قصم من قرية وهي ظالمة، وكم أهلك من القرون من قبلنا لما ظلموا، وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، له جلّ في علاه أجنادٌ مجندة، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.
قطرة الماء التي جعل منها كل شيء حي تنهمر وابلا وتفيض طوفانا يهلك الحرث والنسل، نسمة الهواء التي بها يحيا المخلوقات تتحرك إعصارا يدمر كل شيء، الأرض التي جعلها الله مستقرا ومتاعا تهتز وتضطرب زلزالا فتبتلع الأرض من تقلّه ويخر السقف على من يظلّه وتصبح كأن لم تغنَ بالأمس، الأنعام التي سخرها للناس ليأكلوا منها ومنها يركبون تحمل الأدواء والأمراض فيقتلها أصحابها ويهدرون كل منافعها قبل أن تقتلهم، حتى البشر أنفسهم يلبسهم الله شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، يسلط عليهم ظَلَمَتهم، ويملك رقابهم جبابرتهم، ويجعل بعضهم لبعض فتنة... واليوم نرى من جند الله شيئا عجبا، المال الذي يجمعه صاحبه ويعدده ويظن أنه سيخلده، المال الذي ظنه الظالمون سندهم ومأواهم فأصمهم وأعماهم، حتى قال كبيرهم وهو يعلن الحرب على المسلمين في أفغانستان والعراق: "إن قوة الاقتصاد الأمريكي كفيلة بتحمل أعباء الحرب"! هذا المال الذي انطلقت منه الحرب على الأبرياء في مطلع رئاسة الرئيس الذي يودّع اليوم منصبه ليختم سجله الإجرامي بانهيار اقتصادي لا يمكن التنبؤ بآثاره ولا أمده ولا مداه، وهكذا أشهَد الله خلقه أجمعين على خاتمة الظلم الذي خسر الحرب وخسر الاقتصاد معا.
انحدار للمؤشرات، انهيار للتوقعات، تأميم للمصارف وإفلاس للشركات، نزف مالي، تضخم وغلاء، وضخ يائس للسيولة، قمم استثنائية، حيرة وتخبط ونفق مظلم، وأصبح عام 2009م الذي تنبأ الاقتصاديون أنه عام رخاء أصبح هاوية لا مستقر لها، ثم ماذا؟ انتحار وجنون، وأمراض نفسية، وقلق واضطراب، وأمواج الاقتصاد الحر تقذف بجيف الضحايا على شاطئ الإفلاس، والمؤمنون يقولون: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. ينظر الفقراء إلى أولئك المرابين الذين امتصوا دماءهم وكسروا بالخيلاء قلوبهم وقد حلت بهم الويلات وأحاطتهم النقم، فيرددون مقولتهم التي كانوا يقولونها أيام الكساد الكبير عام 1929م يوم كانوا يقولون: "هذا ما يستحقه الأنذال الأثرياء"، وكأن التاريخ يعيد نفسه!
لقد طغى الكفار وتجبروا، وعتوا عتوًا كبيرا، استكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا: من أشد منا قوة؟! استضعفوا طوائف من المؤمنين يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وينهبون ثرواتهم ويعيثون في ديارهم، لقد آذوا الله ورسوله، وامتهنوا كتابه، وعذبوا أولياءه، وافتروا عليه فقالوا: إنه اختارهم لقيادة العالم، وإنهم هم نهاية التاريخ، وإنه يبارك حربهم، وأعظموا الفرية وجاؤوا ببهتان عظيم حين قالوا: "إنهم يصححون خطأ الرب" تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ملؤوا الأرض ظلما وجورا وربا وزنا وخمرا ومعازف، رفعوا بالمال الحرام أبراجا عالية، وبنوا بكل ريع آية يعبثون، واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون، وبطشوا جبارين، وظنوا أنهم لا يرجعون، فأمهلهم ولم يهملهم، ثم لما أراد كان ما أراد، فحلت لعنة الربا حيث كان يحل، ونزل شؤم حرب الله على من آذنهم بها، وتجاوزت دائرة آثار الجريمة أهلها، وتلك سنة من سنن الله، قالت زينب رضي الله عنها: يا رسول الله، أفنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
إن كل الدراسات والتحليلات للأزمة الراهنة على تنوع أساليبها وتباين مضامينها تجتمع في ثلاث كلمات هي جوهر ما يحدث اليوم، ألا وهي: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا، كل جذور القضية ترجع إلى القروض الربوية التي يعاد تعليبها ثم بيعها بعد التأمين عليها، ثم تصاغ منها مشتقات ربوية مع الرهن تباع على صناديق استثمارية، وتتداخل البيوع المحرمة، وتصاغ عقودها بالربا والميسر والغرر، ظلمات بعضها فوق بعض، لم تزل تتراكم آثارها وتتجمع آفاتها، وسدنة الاقتصاد الحر يوغلون في غيهم، ويسترسلون في ظلمهم، ويستعجلون بالعذاب، ويستهزئون بالوعيد، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ.
لقد آذنهم الله بحرب منه، والحرب من الله ليست كالحرب من غيره، لقد أعلن عليهم حربه، فمن ينصرهم من بأس الله؟! ومن ينجيهم من نقمة الله؟! أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ.
أين ذهبت تلك الترليونات من الدولارات؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. كيف تتبخر السيولات التي تُضخ إلى الأسواق؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. لماذا لا يستطيع أحد إيقاف هذا الانهيار؟! يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا. وأسئلة تظل معلقة في الهواء بلا إجابات: ماذا سيحدث؟ إلى أين ستمتد الآثار؟ إلى متى ستظل الأزمة؟ متى يتوقف الزلزال؟ هل الحلول المطروحة كافية؟ أما الاقتصاديون فيقولون: "لا نرى نورا في نهاية النفق"، استسلام مطلق، وعجز ظاهر، وقلق وحيرة. روى الإمام أحمد عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز و جل)).
أيها المؤمنون، قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. لقد كان المفتونون يراهنون على الاقتصاد الحر، ويقولون: "لا اقتصاد بلا مصارف، ولا مصارف بدون ربا"! كانوا يقولون: "إن الذين يقفون في وجه الربا رجعيون ومتخلّفون، لا مكان لهم في الواقع، سيتجاوزهم الزمن ويجتاحهم الطوفان"، كانوا يقولون: "ما دخل الإسلام في الاقتصاد؟! وما علاقة الدين بالمال؟!"، لقد قالوا والله مثلما قال الأولون الذين: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. حين سقطت الشيوعية قالوا: "إن الخلل ليس في أنها إعراض عن حكم الله واستبدال لشرعه بأهواء البشر، ولكنه خلل في طبيعة النظرية الاشتراكية فحسب"، وقالوا: "إن الرأسمالية هي البديل، والاقتصاد الليبرالي هو الحل". فما الذي حصل؟ أفلست الرأسمالية، وانهار الاقتصاد الليبرالي، وصار الاقتصاديون الغربيون أنفسهم يلعنون نظامهم الذي صدروه للعالم ليكون دستورا للتجارة العالمية، صاروا يقولون: "إنه نظام مهترئ بالٍ فاشل غير قادر على البقاء، ولا بد من نظام جديد، لا بد من إعادة بناء النظام المالي من جذوره". منذ عقدين والاقتصادي الفرنسي "موريس آلي" الحائز على جائزة نوبل يحذر من الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة "الليبرالية المتوحشة" كما يسميها، ويقترح لإعادة التوازن تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر، ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب اثنين بالمائة، فيفاجأُ المسلمون المنهزمون أن النظام الاقتصادي الوحيد الذي يلغي الفوائد الربوية ويفرض الزكاة بنسبة اثنين ونصفٍ بالمائة هو الاقتصاد الإسلامي!
أما اليوم فهم أكثر وضوحا وصراحة، يقول: "بوفيس فانسون" رئيس تحرير مجلة "تشالينجز": "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود". ويكتب "رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دفينانس" مقالا بعنوان: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟". وتعلن الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية اشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام من إبرام العقد منعا للصفقات الوهمية والبيوع الرمزية، التقابض الذي لا تشترطه إلا الشريعة الإسلامية.
قبل أسابيع منعت أمريكا البيع على المكشوف الذي منعه النبي قبل أربعةَ عشر قرنا بقوله: ((لا تبع ما ليس عندك)).
ومع كل هذه الشهادات فلا يزال الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون فيهم، لا يزالون يكذّبون ما يرون، ويجادلون في الحق بعدما تبين، ويدافعون عن باطلٍ تبرأ منه أهله، يعِدون ويمنون، وما يعدون إلا غرورا، تماما كما حدث حين سقطت الشيوعية من قبل، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ.
|